مرآة الخيال - رينيه ماجريت

من ويكي الكتب

الفن والحقائق المجهولة

'بقلم د.محسن عطيه

أجريت في مجال الإبداع على أساس أن الرؤية الفنية هي تعبيرعن عالم ماوراء الوعى."."إذ أن خيال الفنان يتبع مسارات شخصية،..،وذلك ما يفسر دور اللاوعى في تطوير الأفكار الفنية .فالإرادة وحدها لاتحقق الفن، بل يخضع الفن كذلك طواعية للاوعى(1) ويمتلئ الفن بما يشير إلى الحياة اللاواعية،مما يفسرالأفكار الغامضة والأشكال المجازية والاستعارات التى حولت تخيلات الفنان إلى حقائق من نوع جديد،وجعلت من الأساطير ومن الغوص في أعماق الإنسانية مجالاً تستقى منه صيغاً للتعبيرعن الحقائق المجهولة. ولم يكن الفنان السريالى "رينيه ماجريت"(Rene Magritte (19678-1898 مجرد رسام يبحث عن الجمال، ولكن الفن عنده مجال لمزج الحياة المادية بالأفكار ومزج الحقيقة بالخيال. وهناك من يعتبر" ماجريت" مفكراً أكثر من أن يكون فناناً ."وفى الغالب يكون الموضوع غير واضح ،بل خفياً.والشخصيات الرئيسية في لوحاته تعبر دائماً عن ذاته،فى مواجهة الناس مواجهة عكسية."(2) ورغم أن "ماجريت" ينتقل في لوحاته إلى العالم الخيالى الرائع،فإنه لا يفهم الفن كذلك على اعتبار أنه مجرد إشباع وهمى للرغبات، فليس الفنان حالم فقط يشيد عالماً من الوهم.كما أن ما يفعله ليس نسخاً للواقع، وإنما خلق لواقع جديد، يشبه ما يحدث في الأحلام .

علاقات خطرة


يدور مضون لوحة "علاقات خطرة"(1935) حول شغف العقل بالمجهول وبالصور الغامضة ،لأن العقل ذاته مجهول. ويعطى "ماجريت" المرآة مكان الأولوية ووظيفة محددة، وفقاً لسياق موقعها. ورغم أنه من المفترض حجب المرآة لجزء من الجسد العارى،فإن الذي حدث أنها عكست ذلك الجزء بدلاً من أن تخفيه، بل أظهرت ما يستحيل أن يراه المشاهد (من الكتف حتى أعلى الفخذ ). ويشبه عمل المرآة هنا طريقة التصوير بالأشعة، غير أن المرآة تعكس الظهر أصغر حجماً. وكل هذه العناصرالصورية التي تؤلف سياق اللوحة تنتمى إلى المذهب السريالى بأبعادها الخيالىية. وبينما هيأت المرآة في فن القرن التاسع عشر مكاناً للإزاحة،بإعادة تشكيل الحقيقة في صورة رمزية متلائمة، فإن المرآة التي تعمل في لوحة "ماجريت" وفقا لشفافية غامضة،شكلت مكاناً للتناقض بين الحقيقى والمزيف.

الحقيقى/المزيف

ولمفهوم الخداع جذوره التي ترجع إلى اكتشاف الإنسان لحقيقة التقلب المستمر للانطباعات والعواطف والأفكار،مثل التغيرالدائم للواقع ذاته. كذلك فإن الانطباعات عن الواقع تجمع في نفس الوقت بين التناقضات المزدوجة،أي بين الحقيقة والزيف،لأن الحقيقة تتوقف على زاوية النظر.فأحياناً ينظرإلى الخداع كضرورة لاستمرارالحياة. أما الواقع فإنه بمثابة علاقة بين الذات والموضوع ضمن عناصر أخرى.ومن هذا المنطلق تجاوزت لوحات "ماجريت" ذلك الواقع، مثلما تجاوزت النزعة الحسية، من أجل خلق لغة مصطنعة مقاومة لإغراءات القوالب الجاهزة والتقليدية. لقد بلغ عمق التناقضات في لوحات السرياليين إلى حد الجمع بين أبعد المفارقات والتوحيد بينها ،لابتداع حقيقة جديدة من اللامعقول ومن والأضداد.فتتجمع العناصر المتنافرة معاً في وقت واحد، ثم يعيد الفنان ترابطها بطريقة تنطوى على مفارقة "لأنه لو وجد عالم يكون كل شئ فيه ذا دلالةـ ودلالة متساوية،لفقد الإنسان فيه مركزه المتفوق."(3) و تمثل صورة جسد المرأة التي تعكسها المرآة العلاقة الخطرة التي تقود إلى الوهم البصرى،وإلى الإدراك الملتبس للواقع. وفى الحقيقة أن للفنان نزعة شكوكية وتهكمية، ويتخذ من عمله الفنى سبيلاً لإحداث الصدمة والدهشة بتصويرالجانب الغامض من الأشياء.وتتحول لوحة " علاقات خطرة" إلى نوع من التفكيرالبصرى" ولو أنها تخاطب أيضا العاطفة.إذ تجسد موقف الفنان المعاكس والمتعارض من ظواهر الحياة اليومية المقولبة والمتوقعة مسبقاً، فيتناولها ليحدث من خلالها الصدمة،بتحريره للرؤية التقليدية، حينما يدس أحد مظاهر الواقع فوق مظهر آخر في تزامن معاً(الأمامى/الخلفى) .لقد شكلت اللوحة صورة الفكر وفقاً للعلاقة القابلة للتعديل باستمرار، بين الظواهرالطبيعية وعالم الحس من خلال تجربة ذهنية . وقد تحولت المرأة في الواقع المحسوس إلى فكرة .ولم يرسم الفنان المرأة كحقيقة محسوسة وإنما كصورة متخيلة. ويحدث الخداع المحتمل نتيجة التشابه بين ما يرى منعكساً في المرآة وبين ما رآه المشاهد من صورنساء أخريات، أو نتيجة عدم دراية بظاهرة الانعكاس في المرآة بسبب ضحالة خبرته الحياتية، حينئذ سوف يربط بين ما يراه في المرآة وما يشعر به.وقد يعتقد البدائي أثناء النظر إلى المرآة أن مايراه يمكن لمسه إذا تحسس ظهر المرآة. أما صغر حجم الصورة المنعكسة في المرآة عن الصورة الأصل فتشير إلى ظاهرة بصرية، حيث يرى الإنسان صورة الشئ البعيد الذي ينظر إليه في الواقع، أصغر من صورة الشئ الأقرب.غير أن ما يظهر في اللوحة هو شئ يمثل علاقة بين نفس الفنان والمرأة،أي شئ ثالث هو ما وراء المرئي(الغائب/الحاضر).ولايعنى تخيل صورة ظهر المرأة المنعكس في المرآة ،أنه تزييف للواقع ،فهناك مثال مشابه ،إذ أنه عند الوقوف امام صندوق ،سوف يرى منه بالفعل ثلاثة جوانب ، أما باقى الجوانب الأخرى فتدرك بالتخيل .مثلما يمكن تخيل ملمسه وباطنه، فإن الخيال ملكة لا غنى عنها.

الغليون الخادع

رسم" ماجريت "الغليون"(بمتحف لوس أنجلوس للفنون-1928) بطريقة واقعية متقنة تقترب من الصورة الفوتوغرافية وكتب تحتها بالفرنسية"هذا ليس غليونا". على اعتبار أن الصورة مهما كانت واقعيتها لاتنقل الواقع كما هو. فليس ممكنا الامساك بغليون مرسوم وتعبئته بالتبغ أو تدخينه . إن الصورة مجرد تمثيل لرمز، وما يرى هو انعكاس للفكر.وإشارة لمحدودية إدراك العالم الواقعى والقابلية للتأثيرعلى الدماغ والتحكم فيها،إنه يقصدغليوناً مزيفاً.وأحياناً يتناول المرء اللوحة كنوع من الرسائل التي تحوى مفارقة(خادعة) تستخدم الإشارات البصرية. وفى عالم اللغة ليست الكلمة هي الشئ التي تشير إليه،مثلما ليست الخريطة هي الإقليم الذي تدل عليه.

المرآة المزيفة

و يتناول" رينيه ماجريت " في لوحة "المرآة المزيفة" العلاقة بين الداخل والخارج واللوحة لوحة سريالية تتحدى التصورات، تمثل عيناً عملاقة تنتشرعلى مساحتها كإطار لسماء زرقاء وسحب ذات غيوم بيضاء، أي غيوم أمام سماء العقل.ومقلة العين بشكلها البسيط والمصمت تقع في مركز كنقطة محورية. والتناقض الشكلى بين تخطيط المقلة في مقابل المنحيات في شكل السحب و الغيوم .إنها العين الذكية التي ترى العالم بالعقل والنفس. وليست تلك العين في اللوحة سوى مرآة مزيفة، لا تستطيع رؤية ذاتها،مثل إدراك الإنسان يعدل ويمزج ويشوه ويحرف الواقع.وقد صرح "ماجريت" بعبارته"إذا كان العقل يحول الغريب إلى مألوف، فإنى أود أن أعيد للمألوف غرابتة"،ولتحقيق فكرته ابتكر الفنان الواقع المزدوج. لقد ولد الصدمة بتحوير الوظيفة الطبيعية للعين.إن العين النى رسمها "ماجريت" لا تنظر للمشاهد، إذ ألغيت وظيفتها العملية،وهو النظروتحولت إلى وظيفة المرآة العاكسة،الانعكاس في قرنية العين لسماء وغيوم،بل الانعكاس الذي يخترق الباطن وباطن العين ، فتنشأ الصورة.إنها طريقة للرسم داخل الرسم .

المرآة تعكس صورة الفكر

وتحدث هذه اللوحة الفنان السريالى للمشاهد خلطاً واستفزازاً بسبب هدمها للمفاهيم الراسخة للفن ولمبادئ التمثيل والمنطق. إذ أن اللوحة لا تنسخ شيئاً واقعياً أو منطقياً متسقاً مع العقل والتفكير المنطقى.وتطرح اللوحة ثنائية متناقضة هي: الحقيقة /الزيف. ويمكن مناقشة القواعد والأطر الاستطيقية لفن الرسم ،مثل مبادئ المنظور والتمثيل الصورى ، وغالباً تشتمل تقنيات المنظور والوظيفة التمثيلية في الفنون البصرية على أبعاد ثقافية ،لأن الفن يمثل نوعاً من الفكر المرئي .لقد أحدث "ماجريت" انقلاباً جذرياً على المستويين التقنى والجمالى ساهم في بناء نمط تمثيلى- تصورى يتميز بخصائص جديدة . وبينما كانت مبادئ المنظور في المدرسة الكلاسيكية تمثل نوعاً من عقلنة العالم من وجهة نظر إنسانية ، فإن "ماجريت" كان يوجه الانتباه في موضوعات لوحاته ،إلى فكرة سيطرة النظام التمثيلى على طريقة التفكير الإنسانى . ورغم تمثيل العمق في العديد من تلك اللوحات، إلا أن الفنان كان غالباً يركز على تمثيل الجزء الخفى من الموضوع ، ويجعل الصورة تنطوى على دلالة مزدوجة في معنى واحد.حتى يتحول الإحساس بالصورة إلى فكرة باطنية ،غير موجودة خارج ذات المشاهد . هكذا لاتنسخ لوحات الفنان الواقع،وإنما تعكس صورة التفكير،مثلما لا تعكس المرآة الواقع في اللوحات بطريقة منطقية، وإنما تعكس عناصرمن الوجود في مواضع غير مناسبة وغريبة.

1-محسن عطيه :نقد الفنون من الكلاسيكية إلى عصر ما بعد الحداثة ،منشأة المعاف بالإسكندرية 2002 ص111.

2-محسن عطيه:آفاق جديدة للفن،عالم الكتب ،القاهرة2005 ص26.

3-أرنولد هاوزر:الفن والمجتمع عبر التاريخ،الجزء الثاني،ترجمة فؤاد زكريا،الهيئة المصرية العامة للتاليف والنشر،1971،ص489.