صوت الموسيقى والحركة - لوحة الرقصة- ماتيس

من ويكي الكتب

بقلم/د.محسن عطيه

وفقاً للنظرية الجمالية للناقد الأمريكي "ألبرت بارنز" Albert C. Barnes (1872-1951) التي تأثرت بنظريات الفيلسوف الأمريكي "جون ديوى فإن "القيم المنقولة "(أو المحولة)transferred values تعنى أن جانباً كبيراً من التاثير الانفعالى المباشر للوحات "ماتيس" إنما هو محول بطريقة "لاشعورية "من قيم انفعالية ارتبطت في الأصل بأقمشة الفرش،والملصقات والزينات الوردية(بما فيها نماذج الأزهار)والفسيفساء،والخطوط الملونة وقطع الورق والأعلام وغيرها من الموضوعات الأخرى. ويستخدم "ماتيس" كل فراغ السطح المتاح كفواصل أو روابط بين المساحات الجاهزة من ستائر ونوافذ أو جدران أو أرضيات ومنسوجات.ويمكن تقدير قيمة الطابع التزيينى لذاته كما هو بالنسبة« للمنسوحات الإسلامية»،و«الفسيفسا»ء، و«القاشانى » و«نقوش الجص». وللوحة "ماتيس"(الرقصة) أبعادها العاطفية والخيالية والمفاهيمية، و دلالتها التعبيرية.مثلما أن إدراك «سيولة الماء» أو «صلابة الصخور» ليس مجرد إحساس بصرى ،وإنما هو إحساس مرتبط في نفس الوقت بأحاسيس ملمسية وإنفعالية. وبالانتقاء وإعادة التنظيم يمنح الفنان عمله الفنى جماله ،عندما يجمع القيم الحسية مع المشاعر والعواطف. من هنا عبر"ماتيس" في لوحته عن حالة «الرقص المرح».ويحمل الطابع التزيينى أبعاداً تعبيرية،إذ أن انفصال القيم الحسية عن المعنى يؤدى إلى تحويلها إلى مجرد «زينة فارغة» أو «زخرفة متكلفة»، وأحيانا تستخدم الزخرفة لإخفاء ضعف ما في العمل الفنى. ويمثل"الحدس" عند " برجسون" العنصر"الديونيسى" الأقدرعلى التعبيرعن العنصر الغنائي، مثلما في الفن التأثيرى و«الموسيقى الانطباعية». أما "شوبنهاور" فيصرح أن التحقق الموضوعى للإرادة،يتمثل في الفن الذي يخلص المشاهد من سلطة الإرادة. فكل عنصر يتحول إلى آخر في المجال المقابل.وبذلك يتمثل الشئ بشكل أفضل بعد التحول منه إلى المجال المقابل، ويبلغ ذروة ثمرات الإرادة. وقبل أن يشرع في رسم لوحته "الرقصة"(1910) تردد "ماتيس"عدة مرات على"طاحونة جاليت" لمراقبة رقصة ”الفاراندول“(الرقصة الريفية )التي تؤديها النسوة مع الرجال متشابكين الأيدى في حلقات، بمصاحبة موسيقى وثابة.وأثناء الرسم ردد الفنان اللحن الذي سمعه، فأنتج لوحة رائعة ذات تكوين راقص متناغم على الإيقاع ذاته.إن الصورة ليست مجرد "محاكاة " بل أضحت صياغة بنيت في ذاكرة "ماتيس" الصورية.وليس هناك رسم أو موسيقى بلا «غموض».وبينما الفن يقلق،يعيد العلم الطمأنينة.والرسم وحدة بين البصرى والمعنى الرمزى معاً . لقد رسم "ماتيس" لوحته مثل استعارة أوصياغة بديعية ( بصرية - مكانية) لقالب الحركة. إذ تحسس «الرقصة» في فراغ ثلاثى الأبعاد ككل متحد، من الحركة الشمولية المتزامنة للساق والذراع والجسد والإبصار والسمع والرائحة،واستنشاق النفس وإخراجه ، فيتذكرالإحساس والرؤية وشم الرائحة وسماع الأصوات. وقد صور "ماتيس" بتأثير من منظر«الشجرة المتفتحة» أوبموسيقى وتواشيح إندلسية مبهجة، تعكسها أيضاً البساطة والنضارة في المخطوطات الفارسية والمطبوعات اليابانية.وبنفس غاية "ماتيس" في تجسيد الشعور بالراحة والمرح في لوحة "الرقصة"، أراد "بيكاسو" البحث " عن شئ أكثر واقعية من الواقع عندما رسم لوحة" الطبيعة الصامتة ". ولتوضيح دور الاستعارة metaphor في فنه صرح بقوله: وضعت في لوحة «الطبيعة الصامتة »صندوقاً من الكراث وأردت أن تعبق لوحتى برائحة الكراث.إذ يلجأ الفنان لذهنه للتوصل إلى الاستعارة أو المجاز وأفعال التقمص الوجدانى، وإلى موضوعات متجانسة عاطفياً مع انفعاله، فيجعلها تحل محل الموضوع المباشر والانفعال المباشرفى صور جمالية-خيالية.وأساس الاستعارات البصرية فكرة مزج التشابهات بين واقعين لتصور ما فوق الواقع .أما الكناية فأساسها التلامس. وتستدعى التساؤل عن نوعية الروائح التى كانوا يتطيبون بها في حياتهم.وتظهر ضمن ا«لنقش البارز» الذي يصور تحضيرالعطور بعصر الأزها، فتاتان تقومان بعصر «اللوتس الأزرق»، الموضوع داخل قطعة من قماش الكتان مع قليل من الماء،بعصاتين تلفان طرفى قطعة القماش في اتجاهين متعاكسين. ويستقبل «الزيت العطرى» المستخرج إناء من الفخار. والفتاة الحاملة لسلة تحوى «أزهار اللوتس» فوق رأسها، تستحضرة ليدخل في عملية العصر.ويثيرالموضوع شغفاً حول رائحة العطر الذي يحتويه الوعاء.وسوف تسفرمواقف مماثلة،عن الشعور بالمشاركة العاطفية من خلال شم رائحة زهوراللوتس أو روائح البخور، وبخاصة في الأجواءالشعائرية غيرالعادية.وهناك نماذج أخرى من النقوش على جدران مقابرالمصريين القدماء تجسد استخراج الروائح المستخلصة من مصادر أخرى،بحرق «الراتنج» و«اللبان» و«الصمغ»،أو بنقع الأخشاب ذات الروائح العطرة في مزيج من الزيت والماء. يحتاج افتراض "الدراسات الجمالية الحديثة" أن حواس"البصر والسمع" هي وحدها الجديرة بالاهتمام والبحث، لقدرتها على إنتاج الفن، إلى إعادة النظر وتمديد "النظرية الجمالية" لتشمل كل الحواس،لأن «اللمس »و«الشم »،تبعاً للأفكار الجمالية التقليدية لا تنتجان تحفاً فنية،لذا فهما من «الحواس الثانوية». ولذلك انحصر اهتمام برامج "تنمية الحواس" على «الفنون البصرية» و«الموسيقى» ،غير أنهما ليسا مجرد محفزات. فقد تعالج أشكال من الرسم والموسيقى والرقص الحواس متداخلة ،فتمزج بين «المرئى »و«السمعى» و«اللمسى» و«الشمى».ومن المعروف أن دور«الشم» و«السمع» كان أكثر أهمية في العصورالتى سبقت الحضارة، وظلت مترسخة في نظم اجتماعية ورمزية بطريقة محددة،تنسق رد الفعل تجاه المؤثرات الحسية. ومن الناحية «النظرية الجمالية» ينبغى أن تتخلص من «المثالية الميتافيزيقة». ويقدم الفن التشكيلى أمثلة ، مثل «فن الأرض» (حيث التفاعل الذي يشمل حواس البشرية مع البيئة) و«فن الجسد».وفى جماليات الحواس الثانوية تتحرر الحواس من معناها السلبى كحواس مستقلة عن غيرها وكحواس مجردة، بمعنى استقلال الإنسان عن العالم، فيصبح كصدى للبيئة.ونظراً لتعقد الجوانب الثقافية والرمزية والاجتماعية للحواس التي يطلق عليها «ثانوية»،فإن تعقد تركيبها يؤهلها لأن تحتل مكانة مهمة في الدراسات الجمالية المستقبلة . حينما يعثرالفنان على أصول لعمله الفنى في صورغيربصرية،حينئذ سوف يدمج ما أدركه «بحواسه غير البصرية» (السمعية واللمسية والشمية) في «الصيغة الفنية»، فينفذ سحره في «صور تحويلية» وعملاً فنيا.وبالنسبة للفنان "ماتيس" تصبح «بقعة لونية» ذات بريق، بمثابة فكرة أو نمط معبردون قصد،وسرعان ما تجئ مثل «ومضة البرق» المحفزة، فيلتقطها بسرعة،قبل أن تغيب عن مجال الإدراكه لتشع في عمله الفنى. ويمثل "الإدراك الحسى التحولى" الصفة الإعجازية ذاتها الكامنة في «الرؤية». وفى هذه الحالة يصبح تفكير الفنان على هيئة صور. والواقع أن بوسع الإدراك الحسى التحولى أن الأفكار الذهنية يمنح قوتها ويعمل على توسيعها. بل ان مهمة «العملية التحويلية» بتعديل للشكل والجوهر و«الصيغة البديعية». حيث يندمج شكل البيئة المستوعبة مع العناصرالمعنوية ويعدل كل منهما للآخر في عملية التحول، التي تحافظ على هوية كل من العنصرين. و«الحواس» تمنح الشكل والعقل يصوغه. ويمارس الرسام تجربة الإدراك الحسى التحولى فيستمد طاقته الفاعلة من مخيلته، ومما احتفظ به العقل من التجارب والمشاعروالانطباعات الحسية،ونتيجة لتفاعل المخيلة مع مع «الذاكرة الصورية».والتحويل في العملية الإبداعية يتم حين يمر إدراك الفنان الحسى للعالم عبر رؤيته ليصبح العمل الفنى . وفى الحقيقة أن الفنان يصل إلى ذروة الإنجاز الفنى حين يكون في أقصى حالات التفتح نحو إيقاعات الطبيعة ،متحداً مع «الحيوانات »و«الجبال» و«الأشجار» و«الآزهار»،فيصيغها في حركة حيوية وإيقاعية تعكس «جوهر الحياة»، بوصفها أعمالاً فنية.حيث يصورالفنان إحساسه بالموضوع كإدراك حسى نحولى. ولم تكن اللوحة التي رسمها "ماتيس" مجرد محاكاة لمشهد ،وانما هي "صورة"تكونت كرؤية وصياغة تعميمية ،و"بنية" تولدت في الذاكرة كتصور يتمتع بمرونة وذاتية وقدرةعلى الحركة والتحول كصيغة بديعية حسية ،عبارة عن صياغة بصرية مكانية في الفراغ ،بحيث تشمل «اللمس» و«البصر» و«الرائحة»،و«الحركة الشمولية». وما استحوذ على البصر ينطبع في الذهن بواسطة الشعورالعميق حتى يلتصق به، ويصبح الشكل غير متميزعن الشعور بل يصبح الشكل شعورا والشعور شكلاً.

تمثل" الصورة البديعية" المتصورة في لوحة"الرقصة" التي رسمها "ماتيس" مع اندماجا بين عناصر منتقاة من رؤيته لرقصة"الفاراندول" فى" طاحونة جاليت" وعناصر مستدعاة من «الذاكرة الصوربة». وتعنى «الرؤية الفنية »الاحساس الموضوع في الحركة.ويتضمن رسم لوحة «الرقصة» مشاهدة الرقصة والإحساس بها بل وتأديتها وتذكرها في نفس الوقت. والصيغة البديعية المتصورة هي الصياغة المتحركة التصميمية لذكرى الصورة. وتحفز «الفكرة» و«الاحساس البدئي» المخيلة نحو انبثاق «الرؤية الفنية» في عمل فنى.وتفهم تقنية «ماتيس» في الرسم على أنها تجاوب عناصراللوحة أي تجاوب الصورة مع «المعنى المهيمن» أو «الحركة المهيمنة» التي هي الإحساس الرئيسى.وذلك يعنى أن الصورة وجدت قبل رسمها، والتقنية هي مسيرتها التطورية.فمنذ البداية كانت لدى "ماتيس"رؤية كلية لفكرة تكوين لرقصة "الفارندول" كانت بمثابة القوة الموحدة والمنسقة للتناغم التي انتجت تكوين لوحة"الرقصة" كبنية وليس كتجميع.وحين تكون المخيلة تحت سيطرة «الغريزة»، فإنها تتوصل إلى أفضل فكرة مبتدعة.والاستجابة الترابطية تعنى الرؤية مصحوبة بفكرة أو بصورة من الذاكرة فتندمج مع الرؤية البصرية.وبفضل الترايط تقوى نغمة الإحساس بالشئ، ويضفى عليه حيوية ودلالة ،أي يصبح جماليا. وفضلاًعن الاستمتاع بالروائح والملامس كموضوعات جمالية ،فكثيراً ما تبعث الإحساسات «الملمسية» و«الشمية» بواسطة أعمال فنية «بصرية »أو «سمعية» حيث أضفت على الأعمال الفنية قدرة تعبيرية .ويجتذب «التصوير» و«النحت »حاسة «اللمس »و بالإضافة إلى التطلع إلى تمثال "خفرع" قد يغرى بتحسس مادة حجر «الديوريت».وفى العادة تثير التماثيل فكرة "القيم اللمسية" التي من شأنها أن تحفز «الخيال»إلى أن يحس بكتلة التمثال وبأبعادها في الفراغ ،وتشجع خيالياً على تلمسه أو الدوران حوله.وأحياناً يصبح في وسع الموسيقى إثارة الاحساس بالنعومة والصلابة والخشونة.ورغم أن مظاهرالجمال الحسى موجودة في الطبيعة كـ «رائحة الزهور» و«لمس الحجر» وفى حركات البشر،فإن الشكل لايتمثل إلا حين يشكل الفنان المادة والموضوع والانفعال والخيال في عمل فنى، «لوحة »أو «تمثال» أو «مقطوعة موسيقية»، على نحو حيوى وساحر.والشكل ينظم التعقيد ويوحده ،ويضفى على العمل الفنى طابعه الكلى.ويرجع التعبيرإلى «التداعى»(الترابط) أي ارتباط الموضوع في الذهن بتجارب سابقة ترسخت في الذاكرة والمخيلة.وتخيل الحركة يتمثل في قوة الخطوط واتجاهها التي تثير التوتر والاندفاع في الصورة.ومع ذلك فإن «التداعى» لا يكون ممكناً إلا بفضل «النمط الكامن » للصورة، فالخطوط والصوات والألوان معبرة بسبب سماتها البصرية والسمعية الكامنة ولذالك ترتبط بأفكار وانفعالات معينة.