النقد البنيوي/الظلال والألوان

من ويكي الكتب

بقلم :د. محسن عطيه

عندما استغنى"إدوارد مانيه" Édouard Manet (1832-1883)عن الظلال السوداء في لوحة "بار في فولى بييرجير" (1882) وعن الإيهام بالعمق، وتأليفه بين الألوان الصافية والمتضادة مع الأسود المخملى و الرمادى بحرية وجرأة، كان يقصد أن ينقل الفنان الحياة العصرية، مع تقديرقيمة مادة العمل الفنى، أكثر من الاهتمام بما يمثله ذلك العمل، فتحررت المعالجة الفنية للمادة من غرض المشابهة مع النموذج. لقد ابتكر"مانيه "مفهوما معاصرا للفن جوهره مادى (اللوحة- الشئ Painting-Object) حيث يمارس العمل الفنى كشىء مادى. وبينما رسم الفنان الكلاسيكى اعتمادا على "المنظورالخطى" ، وعلى مصدر واحد للإضاءة، ورؤية من نقطة ثابتة للإيحاء بالعمق، فإن "مانيه"على عكس ذلك يؤكد على شكل مسطح اللوحة دون الحاجة للإيحاء بالعمق الفراغى، ملقيا ً الضوء من مصادر متعددة، وخالقاً رؤى متعددة, كمساحة تسمح للمشاهد بالتحرك حول العمل الفنى الذى يبدو كمساحة مواجهة للمشاهد، مع الاحتفاظ بالتجانس المعهود في الفن الكلاسيكى. وترجع جاذبية اللوحة إلى كونها تعكس الحياة الحديثة على نحو غامض، بسبب نفى مبدأ التمثيل representation بالمفهوم الكلاسيكى والمعالجات الفراغية والضوئية التقليدية المرتبطة به، ومنها الإيهام بالعمق والمنظور. وكان مفهوم التمثيل في كلاسيكية القرن السابع عشر، يعنى انعكاس المعرفة أمام العقل، وهى تحاكى الحقيقة المطلقة. بينما تمثل جمالية القرن التاسع عشر عصر، حيث استعادة حرية الرؤية والشعور، رغم استمرار رؤية العالم من خلال مفهوم التشابه "ما بعد التمثيل" الذى تشبه قواعده مبادئ "ما قبل التمثيل "المرتبطة بالفن القوطى وعصر الحرية الجمالية. وفى الرؤية الحديثة توقف الفنان عن مهمة التمثيل التقليدى. ويمكن اكتشاف تأثير" المرآة المشوهة" التى تعتمد على تثبيت موضع المشاهد وعلى العلاقة المتباينة بين الفن والمعرفة في فن "ما بعد التمثيل" و"ما بعد المعرفة".

"بار فى فولى بييرجير" (1882) -إدوارد مانيه

ان التغييرات التى أحدثها"مانيه"فى أساليب التمثيل التصويرية في القرن التاسع عشر، متوصلاً إلى تقنيات جديدة في التلوين، مختلفة عن التقاليد التى أرستها "جماعة الباربيزون "، مثل استخدام الألوان النقية، بل وأكثراقتراباً من جمالية "فيلاسكيز" و"جويا". وقد جعل"مانيه" الشىء الممثل في اللوحة يطفو على السطح، كماد ة من الألوان المتعددة بأضواء ساطعة. وحينما يسلط "مانيه" الضوء في لوحته "محطة سان لازار"(1872)على عمق ضحل, ويرسم نظرة الفتاة تتجه نحو الداخل، بينما تتجه نظرة المربية للخارج، لا يتمكن المشاهد من مشاركتهما فيما ينظرون إليه. وقد مارس "مانيه" في لوحته "لعبة الاحتجاب"، بعد أن استخدم مصادر متعددة للضوء، أما الضوء الآتى من خارج اللوحة، فيؤدى إلى تجريد الهيئة الجسدية للشخصيات المصورة، متعارضاً مع معاييرالمحاكاة، مما يثير حالة من الحيرة والقلق للمشاهد.

"محطة سان لازار"-مانيه

ويبدو رسم المكان في لوحات "فينسنت فان جوخ"Vincent van Gogh (1853-1890) متخيلا وسيكولوجياً بسبب كونه انسلاخا ذهنيا أكثر من كونه انسلاخا تشكيلياً. ولا يرسم الفنان في لوحة "زهورعباد الشمس"(1889) الزهور لتسجيل معالمها، أو حتى تمثيلها مثلما هى، وإنما رسمها كوسيلة لخلق الحقيقة ذاتها. ولوحة الزهور تحسم قضية التمييز بين العمل الفنى والأشياء الأخرى. وتطرح اللوحة أسئلة حول الزهور. ليس حول شكلها وطريقة نموها فقط، وإنما كذلك عن وظيفتها الرمزية واقتراناتها الأسطورية، والذى يمثل معنى غير ظاهر يتطلب اكتشافه. ويتمثل في شبكة من العلاقات التى لها دلالتها ومغزاها. حيث تنفتح كل دلالة على دلالات أخرى أكثر. ويخلق العمل الفنى عالما ًخاصاً به وينفتح على عوالم أخرى ثقافية أو اجتماعية . وفى الواقع ليس تخلى "جوخ" عن مبدأ التمثيل التقليدى ذهنياً بقدر كونه خيالياً وسيكولوجياً. أما مبدأ الإخفاء فهو شرط مسبق وضرورى لإظهارالحقيقة. وعلى خلاف أساليب التمثيل التقليدية، أدرك "فان جوخ" القدرة الذاتية للون للإيحاء بالقرب والبعد في الفراغ دون مساعدة عناصرأخرى .

"زهورعباد الشمس"(1889) فان جوخ

وتظهرالألوان في لوحة" كرسى جوخ"(1889) في وجودها المكثف والصافى، واختزلت التأثيرات الضوئية على نحو رمزى - مجرد. لذا رسم"الكرسى"بالأصفر بأرجل غير منتظمة، في زاوية المطبخ فوق بلاط بنى، قريباً من باب أزرق، وخلفه صندوق بصل. ويمثل الغليون بالقرب من التبغ ، قلق الفنان . بل أن الكرسى يمثل" جوخ "نفسه، لأنه مرتبط به جداً، وجوهرى في حياته،كما تكنى قاعدته من القش عن حياة متقشفة، وتذكر بحياة المهمشين. وقطعا لايصلح الكرسى للزينة، وقد تحول الكرسى في الفن إلى حقيقة أكثر من الواقع الذى حضر في اللوحة، ليس بسبب تطابقه مع الواقع أو برسمه، مثلما هو في الواقع، ولكن بكشفه عن المعنى الحقيقى لكرسى من القش، يجلس عليه"فان جوخ" فأصبح أكثر غنى مما عليه في الواقع. وبهذا الأسلوب يكشف الفنان عن جوانب خفية لوجوده من خلال علاقته بالعالم. هكذا تصبح الحقيقة جميلة بوصفها كشفاً. ويكشف العمل الفنى عن جوهرالأشياء التى لا تظهر في الواقع، بالغوص فيما يختفى منه، أى الجانب الرمزى. وتضج لوحات ”فان جوخ" بالحيوية وبالقوة التشكيلية، كما تدل على الإحساس بالأمل كدافع لمحاربة اليأس. وهناك العديد من الفنانين عانوا من شىء مثل قلة النوم أو من الشعور بالوحدة، بل من نوبات هوس، مما دفع "جوخ" لأن يرسم بلا كلل لوحات، مثل ”صورة ذاتية بأذن مقطوعة ” (1889) وكان عادة يتخيل أشياء غريبة ساهمت في تغيير رؤيته للأشياء.

”صورة ذاتية بأذن مقطوعة ” (1889) فانجوخ

ويجعل"جوخ" ذاته مرئية من خلال رسمه لصورته الذاتية باستخدام مرآة. ورغم أن ما يظهرهو الرأس والكتفان فقط ، فإن الصورة المرسومة عبر المرآة تقلب اليمين يساراً. وتظهراللوحة الفنان وكأنه يتودد إلى صديق، أو كأن الذات تقوم بتشكيل نفسها كـ"آخر". و يجعل "فان جوخ " من نفسه شخصا آخر إذ أن صورته الذاتية هى الطريق للعبو نحو عالم اللوحة المرئى. وفى هذه الحالة يحول جسده إلى رسم. وعندما ينظر الفنان لنفسه في المرآة فإنه يرى ما لم يره عادة(عينه أنفه) وبذلك فهو يرسم شعوره بذاته حيث تصبح المرآة أداة كشف أو حجب، وهى غالباً تكون غائبة عن اللوحة المرسومة. والفنان حين يعير جسده العالم، يحول العالم إلى لوحة، وحين يرسم الأزهار فإنه يعيرالجسد للزهور، مثلما أعاره للأشجار. والشىء المعنوى الغيرمرئى ظاهريًا، يجعله الفنان مرئياً.

كذلك لم يستخدم الفنان "محسن عطيه" اللون في لوحة "لاتخلف الوعد"(2008) لمحاكاة الضوء، وإنما استخدمه ليخلق ذلك الضوء. وقد طور بطريقته الخاصة في التجريد، تصوير الجوهر الحقيقى لما وراء المظهر السطحى للأشياء. وتعد أعماله نموذجاً لتطوير لغة الخط بحيوية، ولتقديم ابتكارات جديدة للتكوين في فن الرسم. أما القيم الحسية والخيالية فهى السبيل لتعميق المعنى التمثيلى للصورة. إذ أن عبارة خط حيوى لا تشير إلى إدراك الخط ، وإنما كذلك إلى تأثيره النفسى.وقد بدت الإيقاعات الخطوطية تجرى بحرية، وتحررت الألوان من الوظائف التمثيلية أو الزخرفية، وتحولت إلى ما يشبه الإيقاعات الموسيقية المتناغمة، وجمعت بين البساطة والتعقيد

وزيادة على ما يفصح عنه العمل الفنى من معنى ومن قيم حسية وخيالية، يضيف المشاهد شيئاً من خبرته، ليعمق معناه. ويشتمل التحليل التفسيرى على المعانى التمثيلية والرمزية. وتستمرالخطوط في حركتها الإيقاعية. ويكشف التفسير الدلالى الأكثر عمقاً للوحة"لا تخلف الوعد" العنصرين المتناقضين معاً، التشبيه ونفى التشبيه، كحقيقة جمالية. ولاتحاكى الألوان بلوحة "لاتخلف الوعد" الألوان في الطبيعة، بل كأنها تلبى حاجة المشاعرالذاتية للتجسد شكلياً. وكذلك توحى حالة تناغم وانسجام الألوان المتجاورة الشكل الحر برؤية فردوسية. ويتعمد الفنان هنا أن يترك في عمله الفنى، مناطق فراغ دون تشكيل. وفى الحقيقة أن مثل هذه المناطق التى تنقطع عندها عملية الرسم أو النحت، تحفز العين على إضافة خط وهمى لإسكمال الصورة. ويمكن للفنان أن يمحى أجزاء أخرى من التخطيط بمؤثرات، تؤكد على خاصية معينة. وإذا لم يتطلع المشاهد لكل جزء بمفرده، حينئذ سوف يظهرالخط المحيطى كتصميم تأملى أو روحى. وعندما ينشط عمل البصيرة يصبح من الممكن إدراك الحركة الناقصة مكتملة، بفضل اندماج الصور في نظامين مختلفين متزامنين في العمل الفنى, وللبقعة اللونية طاقتها الكامنة التى تجعلها متشابهة مع شئ آخر. وقد استطاع الفنان" محسن عطبه" وإحلال بنية مكانية جديدة، في لوحته تقوم على إذابة التميزات بين التمثيلات القريبة والأخرى المتباعدة، وبين العناصر المتحركة والثابتة. حتى أصبح المكان يقيم في الأشياء، وليس مجرد فراغ تتجمع أو تتفرق فيه الموضوعات، أو يحيط بالأشياء، بل أصبح يلج إلى داخلها، وكأنه يراها من منظورمختلف متزامن. وهذه اللوحة تمثل الطريقة المبتكرة، التى زرعت الاضطراب في أصول الرسم الموروثة ، بل طريقة للهجوم على المفهوم التقليدى للجمال. إن ما يهم الفنان هنا أن يبرز النمط الشكلى، مع رسم المعادل للهجوم على التقاليد الأكاديمية بنوع من الجمال مختلط بمفاهيم سحرية.فى النقد البنيوى يقع معنى الصورة وراء سطح العمل الفنى، على اعتبار أن كل شىء يتكون من إشارات تنمح المعنى ، و ينتمى هذا المعنى إلى حقل الفن ، حيث يتشكل من سلسلة من الأنماط المتعلقة بكيفية خلق العمل الفنى. ومن خلال استخدام التعارضات الثنائية بين العنصر في مقابل الآخر ،. تركز البنيوية على تسبق الأفكار، ومن التعارضات الثنائية يتولد الأفكار، مثلما تخلق ثقافة المجتمع. وبهذا المعنى يعتبرلعمل الفنى بمثابة فكرة (مدلول) وصورة (الدال) تخلق المعنى. وغالباً يستند النقد البنيوى على حقيقة وجود عوامل مشتركة تربط بين مختلف الثقافات البشرية ببعضهم البعض .

إنه و منذ الأشكال الأولى للنقد الفنى في اليونان القديمة ، اتخذت مناقشة المعنى في الفن اتجاهات عديدة.وفى الواقع ، يمكن لدراسة الطرق المختلفة للنظر إلى الفن أن تخبرنا كثيرًا عن دور الجماليات والقضايا الثقافية.وعادة يقترب الناس من المعنى من وجهات نظر مختلفة. فإن الأعمال الفنية تظل صامتة بينما تتغير الأراء من حولها. وهناك عدة طرق ، وأحيانًا متضاربة للغاية ، للتفكير في المعنى..أما البنيوية فتستند على فكرة أن مفهومنا للواقع يتم التعبيرعنه من خلال أوفى الفن مثلما في العديد من الأشكال الأخرى من الأعمال الإبداعية، هناك نوع من البنية. ومن المؤكد أن استخدام الوسائط المختلطة واستخدام النظرية والبيئة كعناصر في العمل الفنى، قد ساعد على تطويرالفن، الذى يعرض الفكرة بدلاً من االشىء. وبغض النظر محاولة الفنان أن يتخذ أسلوبه الخاص به، فهناك نوع من البنية والنسق فنى يستجيب لحاجات العصر، مثلما حل نموذج القرن التاسع عشر بنزعته التاريخية، محل النموذج الكلاسيكى بنزعته الإنسانية. وحلول النموذج الجمالى- الشكلى الذى يركزعلى العمل الفنى نفسه، محل النموذج التاريخى. ومؤخراً جاء النموذج الذى يجمع بين التحليل الجمالى والشكلى في ضوء تجربة التلقى.. ووظيفة " النقد البنيوى" استخلاص البنى الكلية التى تمثل العنصر الأولى للفن ، كعالم قائم بذاته. وتسمح القابلية للتحول بتبديل الأدوار بين العناصر، باستخدام أساليب التحريف. نظمة الاتصال ذات الصلة بعالم الفن.وهكذا يتم تصور الثقافة على أنها بناء أساسه أشكال الاتصال.ومع تطبيق هذا النهج البنيوى على الفنون المرئية، يصبح عالم الفن بناءًا بشريًا جماعيًا، حيث يحتاج عمل واحد إلى الحكم عليه في إطار مدعوم ببنية الفن بأكملها. ولا يزال هذا الهيكل قائمًا على والمعرفة وكيفية توصيل الأفكار.وهناك كذلك قدرة "البنية الفنية" على إعادة تنظيم نفسها وعلى الضبط الذاتى، تبعاً لتغيرالمفاهيم، وتغيرالرؤية الجمالية. ووراء كل بنية سطحية بنية تخيلية - إبداعية. وللبنية الفنية تصورشكلى- تجريدى يعتمد على الرموز، لدراسة الألوان والأضواء والظلال والفراغات والإيقاعات ورمزيتها. وفى الحقيقة أن للنقد البنيوى فائدته، لأنه يساعد على تركيز الأفكار والتعبير عنها للآخرين.