المرآة المقلقة - بار فى الفولى بيرجير
حدثت تطورات ثورية في فن القرن التاسع عشر، مع رومانسية "ديلاكرو"ا(1798-1863) وواقعية "كوربيه"(1819-1877) ،وفكك "مانيه" Manet (1832-1883)مع رواد الانطباعية،الأعراف التقليدية للأكاديمية،مما بدا كنوع من التطرف بالنسبة للفنانين المعاصرين. لقد أنجز الفنانون الانطباعيون أعمالهم في ضوء الشمس،وواجهوا مسألة التباين العنيف بين الضوء والظل،على عكس الرسم داخل الاستوديو الذي يفترض الاستخدام المتدرج للضوء والظلال . أما "مانيه" وجماعته، فكانوا المحرضين على ثورة التلوين المماثلة تماماً للثورة التي أحدثها الفنانون اليونانيون في معالجة الأشكال. ووصل هذا النمط إلى قمة تطوره ومثاليته في فترة "عصر النهضة الإيطالية "مثلما تطورت النظريات العلمية وأساليب التمثيل التصويرى الجديد.أما "مانيه" فقد توصل إلى فهم مختلف عن الأعراف السابقة المتعلقة بمبدأ التمثيل التصويرى في الفن .وتشكل لوحة "مانيه" "التعبير الحداثى" لـ"لمدرسة الانطباعية" في فرنسا القرن التاسع عشر،حيث تلالأت الألوان في أشعة الشمس،لتشبع حاجات جمالية بسيطة ومباشرة وكثيفة؛حيث " حينما تتجمع الألوان المتجزئة على شبكية عين المشاهد ينتج اللون في حالة نضرة."(1)لقد تحررت المعالجة الفنية في لوحات "مانيه"من فكرة التمثيل التصويرى بغرض تحقيق المشابهة مع النموذج" .هكذا ساهم "مانيه" بتأكيد شخصيته في عمله الفنى "فى نشاة التيار الجديد في الفن حينما بدد الألوان المعتمة في لوحاته، وألغى الظلال السوداء،وألف بين الألوان بحرية،متخذاً تقنية جريئة يستعمل فيها الألوان المتضادة مع السود المخملى والرمادى،هكذا نقل الحياة العصرية."(2)وبسط اللغة التشكيلية،لتصبح أكثر إشعاعاً، وأكثر إنسانية بالتعبيرعن الأحاسيس الذاتية بطريقة حديثة،ليشعر بأنه هو ذاته وليس غيره.وتفصح لوحة "بار في الفولى بيرجير"(1882) إلى الطريقة الجديدة والمختلفة التي يفكر بها "مانيه" في الرسم على أساس النزعة الحديثة.يلاحظ في اللوحة كيف تحدق الفتاة نحو خارج الصورة،كنوع من تذكير المشاهد بأنه أمام لوحة مرسومة أكثر من كونه أمام واقع.بل تدعو اللوحة إلى تأمل الخدع في الصورة،التي غرضها أن تزيل الحاجز بين عالمى المشاهد وعالم اللوحة الخاص والمستقل . والفنان الواعى بفنه ودافعه للإبداع المتحرر من مبدأ التمثيل الإيهامى والذى يعتمد على التركيب الشكلى المصطنع، بلا تهويلات عاطفية ". وقد عرف "مانيه" أنه من أجل ان ينفصل عن رومانسية "ديلاكروا"، فإن السبيل لذلك هوأن ينأى بفنه عن مشاهديه،وذلك يفسرنظرة " التحديق " المتنأنية التي تظهرها نماذج صوره، ويفسر خضوع التكوينات وكل عناصر اللون والشكل والفراغ والملمس للتقنية ،ولسيطرة الفنان بإسلوبه وبتقديراته الخاصة ،حتى بدت تلك التكوينات في النهاية مثل تجميع ، وتتبع ما تمليه طبيعة الفن ذاته بلغة حديثة،تؤكد على أن الصورة هي وليدة الألوان أكثر من كونها تشبيها لشئ.وبذلك "تحددت خصائص الثورة الفنية في الخلق حيث تصبح الموضوعات مجرد مناسبة لإخضاع الأشياء لإسلوب الفنان الشخصى."(3)
لقد ابتكر "مانيه "مفهوماً معاصراً للفن جوهره مادى (اللوحة- الشئ Painting-Object) حيث يمارس العمل الفنى كشئ مادى .وبينما رسم الفنان الكلاسيكى اعتماداً على المنظور الخطى، وعلى مصدر واحد للإضاءة، وعلى رؤية من نقطة ثابتة للإيحاء بالعمق، فإن "مانيه"على عكس ذلك يؤكد على شكل مسطح اللوحة دون الحاجة للإيحاء بالعمق الفراغى ،ملقيا ً الضوء من مصادر متعددة،وخالقاً رؤى متعددة، كمساحة تسمح للمشاهد بالتحرك حول العمل الفنى الذى يبدو كمساحة مواجهة للمشاهد ،مع الاحتفاظ بالتجانس المعهود في الفن الكلاسيكى. وترجع جاذبية اللوحة إلى كونها تعكس الحياة الحديثة على نحو غامض ،بسبب نفى مبدأ التمثيل representation بالمفهوم الكلاسيكى والمعالجات الفراغية والضوئية التقليدية المرتبطة به، ومنها الإيهام بالعمق والمنظور. وكان مفهوم "التمثيل" في كلاسيكية القرن السابع عشر، يعنى انعكاس المعرفة أمام العقل،وهي تحاكى الحقيقة المطلقة.بينما جمالية القرن التاسع عشر عصر، التي استعادت حرية الرؤية والشعور،رغم استمرار رؤية العالم من خلال مفهوم التشابه، تمثل جمالية "ما بعد التمثيل" التي تشبه قواعده مبادئ "ما قبل التمثيل "المرتبطة بالفن القوطى وعصرالحرية الجمالية . وفى الرؤية الحديثة توقف الفنان عن مهمة التمثيل التقليدى. ويمكن اكتشاف تأثير" المرآة المشوهة" التي تعتمد على تثبيت موضع المشاهد وعلى العلاقة المتباينة بين الفن والمعرفة في فن "ما بعد التمثيل"و"ما بعد المعرفة". ان التغييرات التي أحدثها"مانيه"فى أساليب التمثيل التصويرية فى"القرن التاسع عشر"متوصلاً إلى تقنيات جديدة في التلوين،مختلفة عن التقاليد التي أرستها "جماعة الباربيزون "مثل استخدام الألوان النقية، واقترب من جمالية "فيلاسكيز" و"جويا". وجعل"مانيه" الشئ الممثل في اللوحة يطفو على السطح، وصوره كماد ة من الألوان المتعددة بأضواء ساطعة.
وتعتبر"المرآة "فى لوحة "بار في الفولى بيرجير"عنصراً هاماً في التعبير البصرى وفى التاثيرأكثر من غيرها في إحداث التأثير بالغرابة التى يشعر بها المشاهد،إذا ما أراد استكشافها.إن "المرآة" في هذه اللوحة تلعب دور المركز في تشكيل المعنى،وفيه تتلاقى العناصر البصرية الأخرى. لقد احتلت "المرآة" جزءاً كبيراً من مسطح هذه اللوحة،غير أن ما تعكسه يسبب قلقاً وإرباكاً . فمثلاً من المنطقى وفقاً للمبادئ البصرية ،أن يكون الرسام عندما تابع المشهد كان واقفاً على الجانب الأيسرمن الصورة ، حينئذ سوف يكون الجانب المنعكس فقط ، هو ما يقع حيخلف جسد المرأة .أما "مانيه" فقد رسم مشهداً لا يخضع للقواعد البصرية لعملية الانعكاس فى" المرآة " على النحو المنطقى،عندما جمع بين مكانين متضاربين، منعكسين في المرآة في نفس الوقت على مسطح اللوحة،أحدهما مضاد للآخر. أما صورة الرجل المنعكسة في المرآة ، وأثناء وقوفه قريباً من المنضدة في مواجهة المرأة(النادلة) وتحدثه معها غيرمنطقية،لأنه لا ينظر إليها وإنما ينظر لأسفل. فحيث كان ينبغى أن يكون هناك نوع من الظل، ولكن لا يوجد شئ دون أى حجاب مطلقاً جسد المرأة كله والزحام .,إذا كان المكان الذى يحتله الرجل في الواقع هو نفسه مكان الفنان، فكان من المفترض أن تنظر المرأة للرجل من مستوى أعلى،غير أن الفنان رسم النادلة في نفس مستوى رؤيته أو أدنى.
لقد أصبحت"المرآة" هي المكان الذي فيه تتحدد تلك السياقات المتضاربة، والوضع الغامض المتزامن بين كل من الرسام والمشاهد. والحضوروالغياب في لعبة الضوء، ومن الواضح تناقض طربقة التمثيل التصويرى الىى اتبعها الفنان "مونيه" عن مبدأ التمثيل الفراغى بطريقة منظور مدرسة النهضة الإيطالية ، حيث يحدد الرؤية من زاوية واحدة وثابتة،بل قدم معالجة مختلطة .لأم يكن الفنان راغبا في تمثيل صورة أدبية ،أو نصا دينيا، أو أيديولوجية ما أو موقفاً اجتماعيا معيناً،إنما هدفه كان إعادة بنائها أو إعادة اكتشاف عالم الفنان .
مصادر}}
1-محسن عطيه:التفسير الدلالى للفن،عالم الكتب ،القاهرة2007 ص148,
2-محسن عطيه:التحربة النقدية في الفنون التشكيلية، عالم الكتب،القاهرة 2011ص109.
3-محسن عطيه:نقد الفنون من الكلاسيكية إلى عصر ما بعد الحداثة ،منشاة المعارف بالإسكندرية 2002.ص130.