الفن والحوار الثقافي
بقلم د.محسن عطيه
الحوار ضد التنميط والتعصب
يساهم رفع مستوى الوعي بأهمية التنوع الثقافى وتعزيز الحوار بين الثقافات، في مواجهة عمليات «التنميط» وإحباط أشكال «التعصب»،بينما يمثل «التنوع »القوة المحركة للتنمية على كل الأصعدة، ومنها الحياة الفكرية والروحية وممارسات الإبداع . والقبول بمبدأ التنوع الثقافى ، هو السبيل لخلق الحوار بين الثقافات للتوصل إلى قدر مناسب من التفاهم.ويمكن للتراث الثقافى أن يصبح بمثابة المساحة المشتركة للحوار المتبادل والمنفتح دون الافتقاد للحس النقدى.
نحن اليوم في أشد الحاجة من أي وقت آخر، إلى سبيل يقرب «وجهات النظر» بين الشعوب، بتعزيز الحوار حول مفاهيم وممارسات وسياسات «تقليدية» تضع حدوداً فاصلة مع الآخر. ومن منطلق [رؤية حداثية] يتحرر الفكر من ‹الأنانية› وتبنى الجسور لتعميق التفاعل الذى أساسه التعرف على «الذات» من خلال «الآخر» للتوصل إلى قدر من التفاهمات المشتركة،وتحقيق التماسك في مواجهة التعصب العنصري، بتدعيم فكرة جدوى التنوع الثقافى في إثراء الحياة الثقافية وضمان جودتها. وعندما يتجنب الفن «القوالب النمطية» يهيئ بيئة ملائمة للتغيير الثقافي ، ويفسح مجالاً أوسع للحوار مع الآخر. ومن خلال الفن سوف يصبح ممكناً تعزيز المشاركة، بتبادل وجهات النظر حول أعمال فنية تمثل طرزاً و مذاهب متنوعة، وتنتمى «لثقافات مختلفة» إذ لا يعاني الناس في الواقع من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بقدر ما يعانون من الواقع الثقافي الذي لم تعالج قضاياه؛ وأهمها [التنوع العرقى] واتساع الهوة بين الجنسين وبين الأجيال ومستويات المعيشة، مما يعوق بزوغ ثقافة تفاعلية تستفيد من «التنوع»، وتعزز «الحوار» على أساس العدالة والمساواة بين مختلف الأطياف، وتدعو للعيش معاً بلا تمييز، بعيداً عن هيمنة من فئة على أخرى، وتشجع على «التحديث» وتفسح مجالاً لأساليب مبتكرة ،تسمح بالتنمية والإبداع. لقد أصبحت مسألة الحفاظ على التنوع الثقافي الذي يمثل تراثا مشتركاً للبشرية، واجباً أخلاقياً؛ يمكن الالتزام نحوه بحماية التنوع في أشكال التعبير وبتدعيم مبدأ التفاعل بالحوار بين الشعوب؛ والعمل على تجديد الثقافة على أساس مبدأ استيعاب «الآخر»--197.162.76.47 (نقاش) 12:53، 10 يناير 2015 (ت ع م) والتواصل مع الثقافات والهويات الأخرى.--197.162.76.47 (نقاش) 12:53، 10 يناير 2015 (ت ع م) الفن أداة للحوار
ويمكن أن تستخدم «أعمال فنية بصرية» كاداة للحوار بين ثقافتين أو أكثر، لخلق عمل فنى جديد . والحوار حول «العملية الفنية» و«الجمالية» بهدف استكشاف البنى التركيبية الثقافية المشتركة، أو لإعادة تشكيل «التصور»، وإعادة التفكير في «القيم الفنية التقليدية» بهدف إنشاء فضاء حوارى تتقاسم فيه المعاني الجديدة.
تماثيل إيزيس-الفن فعل ديمقراطى
ويمكن تناول الأصول المصرية- [الجمالية] بهدف توسيع [الثقافة البصرية] لتصل إلى مجالات أبعد من «المنظور الفردى» ونحو آفاق «التعددية الثقافية» لتجاوز الموروثات «التقليدية». ومن المتوقع تحقيق الفائدة ؛إذا ما أستخدامت مختارات من التماثيل أو الرسوم التراثية التي تصور الإلهة المصرية القديمة إيزيس من أجل مناقشة الأفكار التي تجسدها والرموز التى تنقلها؛ على أساس أن فكرة التنوع في عالم الفن بأشكاله وقيمه وأساليبه، تجلب الفائدة ؛ كخطوة للخروج من الحدود الضيقة للفهم،ولتجنب «القوالب النمطية» للتعرف أكثر على «الذات» من خلال «الآخر»، حينما تبنى جسوراً تصل بين الجزرالثقافية المتعددة( العقول والمشاعر والرؤى ) من حيث الثقافة أو الجنس أو العمر، فتعزز التماسك الاجتماعى وتواجه «العنصرية» إنطلاقا من مبدأ ممارسة تجربة الفن كفعل من أفعال الديمقراطية. وعندما يتجاوز الحوار الثقافى من خلال الفن النظرة التقليدية «وحيدية الجانب» تتحول القطعة الفنية إلى ما يشبه المرآة الخاصة التى تعكس ما نحبه وما نخافه؛ وتتوصل إلى التفسير الأكثر اتساعا لتاريخ الفن ولمنتجات الثقافة البصرية على مستوى التعددية. وفى الحقيقة أن الفن هو أحد أشكال التواصل والحوار بين الثقافات .إذ أن اللقاء مع الفن ينطوى على لقاء مع آخر. وفى الغالب أنه بوسع قطعة فنية من التراث الفنى المصرى القديم أن تكشف عن روح الانفتاح على الثقافات الأخرى المتأصلة في الثقافة المصرية.ويمكن أن يصبح الفن أداة لتعديل القيم السلبية والسلوك الأخلاقى في ضوء المعايير الإنسانية.--197.162.76.47 (نقاش) 13:25، 10 يناير 2015 (ت ع م)
بلورت في الأساطير التى سبقت المسيحية فكرة" الأم العذراء" للاحتفال بهوية «الأنثى» على أساس مبدا «المساواة».بل أنه قد سبقت أسطورة "إيزيس" أسطورة إلهة الخلق القديمة "نيت" Neith غيرأن فكرة الأم العذراء في ظل الأديان الأبوية ،استخدمت لتأكيد السيطرة الاجتماعية من الرجل على المرأة ، مما كان بداية لنشاة ذرائع «التمييز» بين الجنسين.و من المؤكد أن هذه المسألة تهيئ لفتح نقاش حول أسطورة ولادة العذراء في إطار مفاهيم معاصرة،مثل فكرة قوة "إيزيس"التى تتمثل في حبها و سحرها وقدرتهاعلى الشفاء و تجديد الحياة. وما يجعل الحوارأكثر فاعلية هو أن يراعى فيه ان يستدعى الذكريات ، وأن يمس االعاطفة نحو «القطعة الفنية» ، حتى يشعر المشارك في الحوار، بأنه يشكل جزءاً من حياته الخاصة ، وكذلك يدفعه لإعادة النظر في مفاهيم تقليدية ،بناء على أفكار جديدة.أما حقيقة انتشار عبادة "إيزيس" بين العديد من الشعوب التى تعيش في مناطق مختلفة،فتشهد على حيوية الثقافة المصرية وعالميتها .
إيزيس/ لحاءالحياة
وعبر الحوار تتكشف حدود الإمكانات الإبداعية والمفاهيمية التى تختفى وراء الصور. أما تفسير طبيعة [الإلهة الإنثوية] في مصر القديمة ، وما يحيط بها من ألغاز بالنسبة لنا اليوم، فيمكن التوصل له من خلال صورها المجسدة في التماثيل والنقوش التى بقت عبر التاريخ، وظلت غنية بالمعرفة عن واقع اللحظات الفائتة ،وتقدم مفاهيم حول حقيقة النساء المصريات . وتتحقق [الثقافة البصرية الهجينة] في تماثيل إيزيس التى أنجزت خلال العصر «العصر الإغريقى-الرومانى» . فقد كان لغزو «الإسكندر» عام 332 قبل الميلاد، والتوسع فيما بعد للإمبراطورية في عالم «البحر البيض المتوسط» دورا كبيراً في تعزيز شعبية عبادة "[إيزيس]" وجذبت عبادتها المعاصرين من الطبقات الشعبية في روما القديمة، الذين تحمسوا لتبجيلها بسبب أسطورتها التى تدور حول موضوع" البعث" الذى يعتبر الأصل لكل العبادات التى تقوم على أساس قوى الطبيعة ، ومن مظاهرها دورة الحياة الموسمية.فكانت " إيزيس " التى ذكرت في نصوص معبد" سيتى الأول" بأبيدوس بأنها"العذراء العظيمة" هى كذلك «العنصرالأول» لكل شئ، بمثابة "لحاء الحياة "و«الرطوبة» التى تحافظ على الطبيعة، وتجدد قوتها بترطيبها لكائناتها من بشر وحيوانات ونبات، فتقيها من لهيب [الشمس]،وتبقى على [الضوء -الذهب الروحى] وجوهر كل حياة.وبينما قوتها تأتى من إنعكاس أشعة الشمس عليها فإنها في نفس الوقت تمثل [الرطوبة] ،ويذلك امتلكت «سر الحياة» والقدرة على تجديدها. وهي التى اتخذت شكل الصقر ،حينما رفرفت بجناحيها فوق جثة زوجها" أوزيريس" لترسل إليه الرياح حتى "يتنفس الحياة" في الآخرة.هكذا بلورت فكرة أن الموت هو الولادة الثانية في الآخرة--197.162.76.47 (نقاش) 14:27، 10 يناير 2015 (ت ع م).
--197.162.76.47 (نقاش) 15:20، 10 يناير 2015 (ت ع م)
--197.162.76.47 (نقاش) 15:59، 10 يناير 2015 (ت ع م)
وفى الحقيقة ان موقف «الثقافة الرومانية» فيما يتعلق بالأديان كان توفيقيا ،إذ رأوا في الأديان الجديدة مجرد مظاهر محلية للديانة الأصلية ، لذا ليس غريبا أن يطابقوا بين " إيزيس"المصرية والإلهة اليونانية " ديميتر" Demeter أخت" زيوس" المسؤولة عن الحصاد. وقد عثر على تمثال من المرمر لـ"إيزيس" في مقدونيا يرجع للقرن الثالث قبل الميلاد.و من هذا المنطلق أنشئت المعابد في أنحاء مختلفة من أفريقيا أوروبا وآسيا ، كما أصبحت عبادة" إيزيس" في «روما» النموذج لعبادة العذراء مادونا، حيث كانت هناك ضرورة لإشباع «الجانب الروحى» تعويضاً عن الشعور بالتفكك. وكانت الديانات الشرقية قد بشرت بالمسيحية . وتشاهد صور "إيزيس" على جدران المعابد في النوبة في العصر المروى (المملكة الكوشية) والتى عاصرت في مصر دخول «الإغريق» و«الرومان» ، فكانت مبجلة لاعتبارها «ملكة السماء».وظلت عبادة "إيزيس" بين النوبيين حتى عهد الإمبراطور «جستنيان» في القرن السادس الميلادى، رغم انتشار الديانة المسيحية في مصر.وكانت المناظر التى تصور"إيزيس" ترضع طفلها "حورس" هى التى أوحت بصورة "العذراء والطفل" الشائعة في الفن المسيحى. ولوضعية تمثال"إيزيس ترضع حورس" (محفوظ بمتحف اللوفر في باريس) بعداً رمزياً ، حيث تطوى إيزيس ذراعيها وتسند بيدها اليسرى رأس إبنها حورس الجالس عاريا وقدماه متدليتان ،وكذلك تمثيل عملية الرضاعة جرت لتحقيق غاية رمزية تدل على فكرة الأم التى تفانت في حماية إبنها "حورس" من بطش"ست" الذى جعلها تلجأ للهرب بين الحراش. والمعنى نفسه يعثر على ترديد له في قصة هروب "العذراء" ورضيعها"يسوع"إلى مصر لإتقاء بطش "هيرودس"(ملك اليهودية).
وتظهر " العذراء" في التمثال [محفوظ في متحف الفن القوطى - براغ 1410]كشابة تحنو على طفلها "المسيح" تأكيداً على المحبة الإنسانية وعلى الأمومة، بدلاً من الالتزام بالتقليد الذى كان يصورها كملكة للسماء. وفى الفن القوطى"قد بذل الفنان الجهد في محاولاته لمحاكاة الطبيعة في تصويره للشخصيات التى تضمنت موضوعات الكتاب المقدس "(1)ومنذ القرن السابع الميلادى، انتشرت عبادة "العذراء" في الغرب الأوروبى، بفضل تمثيلها لفكرة الشفاعة من أجل خلاص البشرية، على الرغم من انتشار المسيحية في منطقة البحر الأبيض المتوسط . وبتأمل لوحة "العذراء والطفل" التى رسمها الفنان الإيطالى"دوتشو " [Dccio [1250-1319 (سيينا،1300) بجمالها الفريد والمبتكر ،يلاحظ المشاهد كيف أنها تحتفل بفكرة " الأم الإلهية" وهى كذلك تكشفت عن مقدرة الفنان على صنع صورة رمزبة لشخصية إلهية بروح إنسانية جديدة، جاوزت «التقاليد القوطية المبكرة» في اتجاه الإسلوب الذى يبرز حميمية العلاقة بين «الأم وطفلها».و قطعاً تشير الصورة التى تحمل فيها "العذراء" طفلها على ذراعها الأيسر مع الإيماءات نحوه، إلى الطريق نحو الخلاص . وليس هناك شك في أن هذه الصورة تستدعى في الذهن تمثيل "إيزيس" وهي ترضع ابنها "حورس" في إبداعات فنية أخرى تجسد الموضوع نفسه (عاطفة الأم ) بأساليب تعبير مختلفة. ويمكن استخلاص دلالة" العذراءوالطفل" متمثلة في التعبير عن قيم أخلاقية مثل "الفضيلة" بصياغات فنية متنوعة؛ وللتوصل إلى الفهم الأكثر عمقا من خلال الحوار، يتطلب الأمر تجاوز الفهم الحرفى والحدود الزمنية والجغرافية والمادية؛ ليس هذا فقط بل يمكن مناقشة مثل هذه الأعمال الفنية مع أشكال عديدة أخرى موضوعها "الأم الإلهية" مثل تمثال "إيزيس وطفلها حورس" الذى هو نتاج ثقافة شرقية مختلفة عن ثقافة الغرب، ليصبح الحوار مشتركاً بين ثقافتين ، كسبيل لخلق ثقافة فنية وجمالية حوارية،اعتماداً على جذور مشتركة . وكانت صورةإيزيس المصرية قد انتقلت في مخيلة الفنانين إلى صورة" العذراء" مثلما كان اعتناق المصريين للمسيحية نتيجة لتطابق فكرة الأمومة بين"العذراء مريم" و"العذراء إيزيس" ؛بل ان فكرة العذرية المرتبطة بإلهات فكرة أصيلة.
وإذا كان الغرض من أى حوار هو التوصل إلى الفهم الواضح، فإن تمثال" ايزيس والطفل حورس" يحمل " مفتاح الحقيقة" إذا ما جرت مناقشته ضمن أعمال أخرى كثيرة ،وكتابات واسعة النطاق ، تسمح بتحليلها و بإعادة تتقييمها في ضوء النظريات الحديثة للفن ، ومن خلال سياقات أخرى، للتوصل إلى اكتشاف التعبيرات البصرية المماثلة ،و التى يمكن أن تتضمن المعانى المختلفة أو المتباينة.إن شخصية حورس ترمز لفكرة" النور" الذى يسحق "قوى الظلام "فيخلص البشرية. و يمثل عيدالفصح ولادة الشمس عند الانقلاب الشتوى وكأنها رضيع ،مثلما تولد كل صباح.وكذلك"حورس"إله الضوء مثل الشمس التى بزغت من زهرة لوتس ،بل ان حورس يمثل إرتفاع الشمس. والشمس هى التمثيل الرمزى لحيوية الطبيعة ،أما إيزيس فهى «المعرفة والذكاء» ،وقد اكتسبت «قوة الشمس» ،و تاجها الذى اتخذ شكل كرسى العرش يشير إلى حضورها الإلهى المقدس ،فهي الطبيعة التى تضمن وصول قوة الشمس والقمر للبشروالحيوانات والزرع، ولكل شئ فتنعشه. وما يقابل تاج "إيزيس" هو الهالة التى ترمز لقداسة الشخصيات المسيحية.كما أن للشمس ثلاثة خصائص هي «الحياة» و«الضوء»و«الطاقة»، وتنشط العوالم الثلاثة –«الروحية» و«الفكرية» و«المادية» ،و تمثل فكرة" العذراء الأم" مفهوماً دينياً قديماً سبق الكتاب المقدس . وفك الثنائية المتعارضة بين القطعة الفنية والواقع الأسطورى يفسر القيمة الجمالية والرمزية لـ "التحفة الأبدية"و يكشف الفكرة التى أضيفت إلى الموضوع وإلى المادة والزمن،ويحل التشابك في بناء المعانى والحقيقة المراوغة المتضاربة بين البصرى والمفاهيمى ، وبين العقلى والعاطفى.وفى كل الأحوال يخلق توقعاً للاشباع الفورى والإدراك للقيم الشكلية .ويتطلب فك تلك الرموز الثقافية المعقدة تحليلاً لما وراء السطحى، لتوضيح المحتوى المتعلق بالأسطورة التى تتمحور حول دورة الشمس ،التى ستشهد عودة أوزيريس إلى الحياة . وعين الشمس هى أول شئ يقع على الجبل...،وعندما تنير الشمس الجبل فإنها تسبغ عليه شكلاً واحداً ،وهذا التشكيل الأول هو ميلاد جديد يشبه الطريقة التى تخطر بها الفكرة في ذهن الفنان." (2)ان أعمال الفن تكشف الواقع في نفس الوقت الذى تقر فيه التفسير الأسطورى للحياة ،ومن الإثنين نتوصل للمعنى.
مرجعيات الفن
والسبيل لإيجاد مساحة مشتركة للحوار بين الفنون هو اختصار «الزمن» و«الجغرافيا» للسماح للتعبيرات البصرية التى تنتمى لثقافات مختلفة ،مهما تباينت أو تعارضت ، بأن تتحاور وتلتقى، انطلاقاً من مبدأ أن «الحقيقة مراوغة» وقابلة باستمرار للتغيير .إذ أن المعارضة الثنائية التقليدية بين نظرية الفن وواقع ممارسة العمل الفنى لا داعى لها .ومن المتوقع فشل الحوار ،الذى تسبقه المعرفة التقريرية والأفكارالمنغلقة، حول نظرية الفن و تصنيف المذاهب الفنية ،فتعزله عن مرجعياته البصرية والمفاهيمية ،مما يعيق الاتصال المباشر مع الفن. وسوف يصبح الفن أكثر تميزاً وثراء وحيوية،جمالاً وتعبيراً،بقدراشتماله على أفكار عديدة منسجمة في نسق واحد،وبقدر تضمن العمل الفنى للقيم التى لها صداها في ثقافات مختلفة.ويمكن لثقافة مجتمع أن تستفيد من ثقافة مجتمع آخر ،إذا ما استطاعت ان تتخلى عن مبدأالمبالغة في «تفردها»، وإذا ما شعرت بالاحترام تجاه الثقافات أخرى ، انطلاقا من مبدأ أنه ليست هناك حضارة عالمية بالمعنى المطلق ،وإنما الحضارة تعنى التعايش بين ثقافات متنوعة.لقد أثر الفن المصرى القديم في فنون العالم وفى طريقة مشاهدته تأثيراً كبيراً،على مر التاريخ،وما يزال تأثيرة لليوم. لقد قدمت هذه الحضارة القديمة للبشرية أشكالاً من الصور و المنحوتات المدهشة التى جسدت وجهة نظرهم ،عن قيمة الحياة والفن والثقافة والدين .
التمثال المصرى/التمثال الإغريقى
وتأثير الفن المصرى القديم في فن الإغريق والعالم الغربى ليس فيه شك. فقد تفاعل الفنان الإغريقى ،وأنشأ جسراً مع الفن المصرى ومن مراحل تطور الفن الإغريقى، المرحلة الأولى المعروفةبمرحلة ما قبل فيدياس(500- 430قبل الميلاد) مثل نمذج "كوروس "وفيه تتضح عملية استيعاب تقاليد فن «التمثال المصرى» .وكذلك كان الفن المصرى القديم بمثابة المرجع للعديد من الفنون العالمية .أما التماثيل الإغريقية التى ترجع للحقبة المبكرة (من القرن السابع حتى القرن الخامس قبل الميلاد) من الطراز المعروف بتماثيل كوروس Kouros ومنها التمثال من الرخام الذى عثرعليه في «انافيوس»(أتيكا) المدينة العتيقة على أطراف "أثينا" يمثل شاباً نبيلاً ،واقفاً بذاته ،وساقه اليسرى تخطو للأمام ، ويديه مضمومة نحو جانبيه، ووضعية الرأس أمامية ،مع التوزيع المتعادل للكتل، وسيادة الأشكال التى تميل للهندسية والتجريد، وكلها سمات مستعارة من التقاليد التى ميزت الطراز المصرى القديم ومتجانسة معها، رغم إبراز التفاصيل التشريحة المعقدة،مثل عضلات الصدر وقوس الحوض في نموذج كوروس ، والتى اتخذت شكل وحدات متناظرة جميلة.غير أن تطور رؤية الفنان الإغريقى التى تبلورت في النموذج البشرى للتماثيل ، تبعاً للطراز الكلاسيكى، كانت تتجه نحوالصفلت الأكثر حيويةو طبيعية والأكثر إتباعاً لجمالية التصميم ،الذى يتبع المنحنى على شكل حرف S. وبينما كانت الأفكار التى يجسدها النحت القديم حول معانى الخصوية والمسائل الدينية والاحتفالية، صنف «فن نحت التماثيل الكلاسيكي»ة ضمن موضوعات الفن الجميل.
'الفن المصرى القديم مرجعاً للفنان الحديث'
وهناك طرز مختلفة لرسم الجسم الإنسانى، تبعاً لاختلافات الثقافة، أما النوذج الذى اتبعه الفنان المصرى القديم فإنه جمع في التصوير بين الجهتين - «الأمامية» و«الجانبية» في نفس الوقت.وقطعاً تتحدد التقاليد الفنية في إطار بيئة ثقافية معينة .وقد أصبحت «التقاليد الفنية المصرية القديمة» تمثل تراثاً مرجعياً على مر تاريخ الفن . وبالتحاور مع هذه التقاليد الفنية،أجريت عمليات إعادة تشكيل مذاهب حديثة من الفن العالمى.وفعل ذلك الفنان الفرنسى" جوجان" Gauguin في أواخر القرن التاسع عشر ،وهو يشكل أسلوبه التوليفى الجديد ، من الخطوط المحيطية الثاقبة ذات الانحناءات الإيقاعية وهى تؤطر الأشكال . وبذلك ينجزالفنان اللوحة كوحدة جمالية بسيطة. وكان يبحث عن «جنته الساحرة» لتى لم يعثر عليها في تقاليد الفن الغربى وإنما عثر عليها في الأنماط الشرقية التى تحتفل بفكرة «النقاء» .أما لوحة "السوق"(1892) فهي النموذج الذى يمثل الأسلوب الجديد وفيه تتضح مصادر الإلهام الذى لايخفى على العين لإبداع أصيل ،فليس هناك شك في أن الفن المصرى فكان هو مصدر الاستعارات ، وعنصر أساسى من مكونات الحوار بين الثقافات. فوضعية الأشخاص هي الجلوس بتسلسل في محاذاة بعضهم البعض،وبالكاد متداخلين ،ويجمع الشكل بين الجهتين - «الأمامية» و«الجانبية» مع الإيماءات الجامدة،بما يذكر بالنقوش الغائرة على جدران المعابد المصرية القديمة. كما أن التأثير بالعمق الفراغى لم يتبع التقاليد الكلاسيكية المتوارثة ،وإنمااتبع أسلوباً رمزياً ،بتقسيم مساحة اللوحة إلى أجزاء متتالية ،حيث يصبح الخط المحيطى الثاقب وسيطاً جوهريالتجسيدالفكار. و"فى عصر عالمية وسائل الاتصال ،سوف تعرض المنتجات الثقافية ومنها الفن، على جمهور متعدد الثقافات،وسيصبح التراث الفنى في المتناول على الصعيد العالمى. والحقيقة أن الفن يشتمل على تقاليد فنية عديدة،وان تجاهل التنوع يجعلنا نتحيز لثقافة معينة على نحو مبالغ فيه ،بل وعلى حساب ثقافة أخرى".(3)--197.162.127.93 21:14، 14 يناير 2015 (ت ع م)
الأنماط الهندسية الإسلامية مصدر إلهام للفن الحدبث
وبسبب جمال «الستائر الجصية» المتنوعة بتصميماتها الهندسية المخرمة، وتقنيتها المعقدة، والتى تغطى طاقات النوافذ في مسجد " ابن طولون"(876-879 ميلادية) ألهمت حركة الفن الطليعية في القرن العشرين. أما "موندريان"(P.Mondrian (1872-1944 فإنه أعاد اكتشاف «زخارف المنسوجات الإسلامية التقليدية » في تجريداته الهندسية. وكان «الفن الإسلامى» قد اعتمد على «الزخارف النباتية» و«الأنماط الهندسية»، مكتشفا ًمفهوم التشكيل الهندسى من الأشكال المتناظرة- متعددة الأضلاع،بحيث تقبل المضلعات فيها الامتداد إلى مالانهاية،دون تكرار للشكل نفسه. و يرجع جمال مثل هذه التشكيلات إلى الإحساس تجاهها بالفرح ، لجمعها بطريقة مدهشة بين البساطة والتعقيد معاً.وقطعاً طورها «الفنان الإسلامى»، كمحصلة لخبرات جمالية تنتمى لثقافات وطرز فنية متنوعة ، التقت في مساحة مشتركة للحوار. ورغم حقيقة الطابع المشترك بين «مدارس الفن الإسلامى» ،إلا أنه كذلك يمكن التحدث عن فنون إسلامية «فارسية»،أو «مصرية» أو«أندلسية» أو «مغربية» أو أقطار أخرى كثيرة. وما يجمع بين كل تلك الأساليب،إنما هي الخصائص الأكثر عمومية وجوهرية ،مثل التأثير بالأضواءالفردوسية،وتجنب الظلال ،وتصويرالإنسان كحلقة في سلسلة غيرمنقطعة من العوالم والكائنات، في «اللازمن». وللثقافة أهميتها في تشكيل الرؤية الفنية ، " غير أن المعايير الجمالية تختلط غالباً مع معايير أخرى غير جمالية ... ،إذ لم يكن الفن في العصورالإسلامية منعزلاً عن الحياة،وإنما كان على العكس ينفذ إلى أعماقها،ويعتنى بالقيم الإضافيةالتى يستمدها من مكانته فيها، ومن تفاعله مع العناصر الثقافية الأخرى ،مثل الدلالات الرمزيةوالطابع الجليل وعمق الجاذبية ، مما أكسب هذا الفن صفته الإنسانية".(4)
الأطباق النجمية تنقل الأفكار
ومنذ القرن التاسع عشرالميلادى حظيت «علوم الأرقام» باهتمام العالم الإسلامى،وكذلك اكتسبت الأشكال الهندسية أبعاداً «رمزية» ،ومنها الأشكال المتماثلة التى تنتج عن تجمع خطوط منبثقة من بؤر متعددة، فتشكل «شبكة» من الخطوط والمضلعات المسدسة المثمنة والنجمية المتداخلة.وتشتمل "الأطباق النجمية" في معظم مساجد «العصر الفاطمى» في القاهرة مثل «الحاكم» و«الأقمر» في القرن الثانى عشر الميلادى.ومن الحشوات التى يتكون منها الطبق النجمى «نجمة بثمانية رؤوس »أو أكثر ، وتتوزع"البلوطة" في الفراغات بين رؤوس النجمة مع "الكندة" ذات الأشكال السداسية و الزوايا غير المتساوية، بحيث " تكون نقطة المركز للنجمة هي ذاتها نقطة المركز لكافة الأشكال الهندسية المكونة للوحدة الزخرفية".(5) .لقد أظهر الفنان الإسلامى ميلاً لتحويل «المربع» أو «المضلع» إلى «الدائرة»،على أساس أن المربع والدائرة يشكلان النموذج الأول والنهائى في عالم الأشكال."ولقد أصبح شكل الدائرة في مثل هذه النقوش الإسلامية هو النتيجة اللانهائية لتحولات «المضلع »أو «المربع».وهكذا تتحول «الدائرة» من شكل مكتمل ونهائى إلى شكل تتمثل فيه حركة الطبيعة،فهو حيوى- «توليدى» وخصب ،يتضمن أشكالاً عديدة تختلف عنه. وكان شكل المربع الذى يحتوى على مثمنات ،يوحى بتمحور العنصرحول شكل مركزى، وبخاصة شكل المثمن الذى تتمثل فيه مرحلة الدمج بين " الدائرة والمربع" في هيئة جمالية ذات بعد ذهنى. وكذلك اندماج المربع مع الدائرة والمثمن يخلق منطلقاً لتوليد أشكال أخرى ،مما يحقق عناصر «التماثل »و«الإيقاع» التى هي من خواص الفن الإسلامى".(6) ويمكن ارجاع استخدام المربع كوحدة زخرفية إلى الآنماط الهندسية التى زينت سطوح الأوانى الإغريقية منذ القرن السابع قبل الميلاد.غيرأن المربع لم يصبح عنصراً تركيبياً مهيمناً في أعمال فنية مثلما هو في الفن الإسلامى والفن الأوروبى الحديث،حيث تناول الفنانون الأشكال الهندسية البسيطة والمنتظمة لنقل الأفكار في تشكيلات معقدة،كانت أقدم التمثيلات التى تجسد دوافع إنسانية .وكان الفنان وهو يعيد رسم العنصر مفعماً بمعانيه الرمزية برؤية حدسيةK لتوليد معنى جديد من صورتين، وعندما يشكل الفنان أشكالاً ومنحنيات مستعينا بخطوط إرشادية غير ظاهرة، يثير الإحساس بحركتها وهي تذوب وتتداخل مع بعضها ضمن نظام شامل.
الفن الإسلامى مرجعاً للتجريدية
وفى الحقيقة أن استخدامات الأشكال الهندسية في الفن تثير جدلاً حول مسألة التمييز بين الحرفة والفن الجميل ، وكان وراء توسيع الهوة بينهما «منطق ذكورى »يعلى من مكانة «الجمالى » في مقابل «الوظيفى». غير أن الذى يرتقى بالعمل الفنى من «مستوى الزخرفة» إلى مستوى «الفن الجميل» هو مقدرة العمل الفنى على توليد ردود افعال عاطفية وعلى اثارة الأفكار والرغبة في تعميق التأمل .أما «الفن الحديث » فقد استوعب تجربة الفنان الإسلامى ، مثلما فعل " بول كلى" (1897-1940) الذى كانت زيارته لتونس (1941)تمثل نقطة التحول نحو التجريد الهندسى ، بسبب استلهامه لنقوش الحمامات التونسية ، فاستخرج منها الأنماط التى شكل بها موضوعاته الفكهة - الساخرة أو الخيالية التجريدية ، بحيث " تتحرك بهدوء في في اتجاهات لولبية ،أو متعرجةو في أجواء مرحة أو متوترة،تشبه القضبان والأقواس ".(7) وقد استعاد الفنان في مثل هذه "اللوحات التجريدية" طبيعته الطفولية أو فطرته الأولى ، حتى توصل إلى الجوهر الذى يجمع بين أشكال العالم في نسيج رمزى. ان " كلى" وهو ينقب بتجريداته في اللاوعى،يبدأ من لاوعيه وينتهى في لاوعى المشاهد.وعندما يتجاوزالفن ثنائية "الذاتى والموضوعى" أو"المادى والروحى" يعيد النظر في التراث الفنى، بحثاً عن الجديد المتمثل في إرادة الإبداع المطلق .
يفهم اهتمام " كلى " بالشرق كفنان حديث مثلما تكشف عنه لوحته "بارناسوم (1932) في سياق فكرة عميقة الجذور حول التغيير الجوهرى في العمل الفنى،وهى متناقضة مع فكرة أسلافه من المستشرقين .إذ انصب اهتمام «الفنان الحديث» على «تجريدية »و«رمزية »الفن الإسلامى ، مما يتفق مع غاية الفنان للنفوذ عبر «الأكوان الخيالية».ويتضح تأثير الشرق في لوحات «كلى» وبخاصة الكتابة العربية والخط البيانى ،بالإضافة إلى النزعة التجريدية التى عثر على مرجع لها في أنماط الفن الإسلامى. وكذلك الكتابة العربية أو الهيروغليفية وبلاطات القاشانى من الأنماط الهندسية والنباتيةالإسلامية التى قدمت لـ"كلى" أبجديته التصويرية الخاصة وأصبحت مصدراً دائماً لإبداعه الفنى. لقد أظهر "كلى"وهو يتناول الفن الإسلامى كمصدر إلهام لاينضب للوحاته الفنية تقديره وتحمسه لثقافة أخرى غير ثقافته وإمكانية الفنان أن يرى عالم فنه من خلال وجهات نظر الآخرين. بل عثر على قوة الثقافة الإسلامية متمثلة في تحدى النمطية بالإبداع والتعبير النقدى ، وتعميق فكرة «التسامح والتفاهم»، وليس في «التصارع» .وعندما ينتشر الأسلوب في بيئات طبيعية وثقافية جديدة،فمن الأكيد أنه يتغير،وربما يتغير بدرجة تجعله يسمى أسلوبا جديداً...،وحتى في المكان الذى نشأ فيه الأسلوب أصلاً، فإنه لا يمكن أن يظل معمولاً به في فترة طويلة دون تغير،ذلك أن أجيالاً جديدة من الفنانين ورعاة الفن،وظروفا جديدة مؤثرة ، تنحو إلى أن تجعل الأسلوب في حالة تغير مستمر، وقد يتغير في بيئته الأصلية أسرع من تغيره خارج تلك البيئة. (8)
لقدتطورت اللغة التصويرية للتجريدية الهندسية hستنادا Yلى استخدام الأشكال الهندسية البسيطة التى ترسم في «فراغ غير إيهامى » مع دمجها في تركيبات غير تشخيصية "والاستنتاج المنطقى من إعادةصياغة التقاليد الراسخة للشكل والفضاء بمبادرة من «بيكاسو» و «براك» في عامى 1908&1909 لقد هدمت «التكعيبية» للتصوير التقليدى حينما استغنت عن محاكاة أشكال الواقع البصرى".(9)وكذلك في سلسلة لوحات"تحية للمربع"(1966)التى رسمها "جوزيف ألبرز"(J. Albers (1888-1976 ومنحها سعة "إثارة مسائل ذهنية،أساسها حالة الالتباس بمفهومها الإنسانى أو الفلسفى."(10) ورغم تميز سلسلة لوحات « تحية للمربع » بالبساطة الشكلية «إلا أنها مزيج ساحر يجمع بين المصادر الأوربية والأمريكية.ويتمثل المصدر الأوروبى فيما جمعه غبها الفنان من خبراته التى حصل عليها في "الباوهاوس" Bauhaus كما أن المربع يتفق مع الصيغ الرياضية الدقيقة ،وكانت تتألف هذه اللوحات من تقسيمات رأسية- أفقية ،أما فكرة الخداع البصرى من خلال تفاوت الدرجات اللونية ، والتى لها جذورها في أبحاث الخداع البصرى «للباوهاوس» فلهاعلاقة مباشرة مع فن «الأوب آرت »Op Art . لقد أراد «ألبرز»أن ينظم الأشكال في لوحاته وألوانها لتنتج تخطيطات منفصلةعن الأرضية تسبح حرة في الفراغ»(11). وموقف الفنان التجريدى الحديث من الفن الإسلامى يتعدى مجرد التاثيرالظاهرى،وإنما هو نوع من التحاور بين مفاهيم ورؤى حول مسائل جمالية وإبداعية.ولم يكن الفنان الحديث الذى شعر بأن تقاليدالفن المتوارثة منذ «مابعد عصر النهضة » قد وصلت إلى ذروتها في "المذهب الرومانسى" ويستلزم الأمر البحث عن فضاءات أخرى جديدة ، إنطلاقاً من فكرة عالم الفن الذى يشتمل على مسارات عديدة ليس لأحد هنا «الهيمنة المطلقة».وكل عمل فنى يشتمل على أفكار عديدة وسياقات أوسع من حدوده الشكلية،كما أن «استعارة » فكرة من فن آخر،لا تقلل من أصالة العمل الجديد.وفى «فنون مابعد الحداثة» تبلور مبدأ التوليف والتهجين بين تعارضات . وهناك الأفكار التى احتوتها لوحة "آنسات أفنيون" وقد استعارها "بيكاسو"من «سيزان» و«الجريكو» و«النحت الأيبيرى» و«الأفريقى»،وبمزجها بطريقة متفردة –«استفزازية» أنتجت «تحفة فنية ». ويمثل الأسلوب في هذه المرحلةالتحليلة(1909-1911) قناع الفنان ويبدو وكأنه إرهاصا " بالحركة الدادائية"(12) وفيهاعرضت الحقيقة بطريقة تبعث على السخرية. وفى الحقيقة ليس بوسع أي فنان أن يخوض في عالم الفن بمفرده. وكل عمل فنى جديد هو محصلة لجميع الأعمال الفنية التى سبقته. وتشكل الأساليب نسقاً معقداً من العلاقات ذات مغزى متفاعل ومتداخل .
ماتيس / التوريق العربى
عثر"ماتيس" Matisse(1869-1954) في الفن الإسلامى على مصدر يفتح له طاقة في جدار «التقاليد الفنية الأكاديمية»، الذى يحول دون توصله لتحقيق ذاته، بأشكال نقوشه «التوريقية» (الأرابيسك) وقيمه الزخرفية ، وباستخدم اللون في أقصى درجات "الصفاء" و"البساطة التزيينية".إنه الفن الذى يحقق التناغم بين التعبير الفنى والشعور الذاتى . لقد كان أسلوب "الأرابيسك" بالنسبة لـ"ماتيس " بمثابة رمز للحساسية تجاه الحياة لينعم بها الإنسان.و في يتالف التكوين الأرابيسكى ،من وحدات موجبة وأخرى سالبة هى المساحات الفارغةالواقعة بين الوحدات الموجبة. أما «السالبة» فترمز إلى الوجود غير المرئى ،أو القوة وراء الكون .وقد اكتشف "ماتيس" الألوان في «المنسوجات الإسلامية» التى صادفها في «الأسواق المغربية». وقد يتخذ" الطراز الإسلامى" في الفن طابعاً أندلسياً أومغربيا أو مصرياً أوهندياً أو فارسياً ،تبعاً للاختلافات الإقليمية. وكان قبل ذلك الفنان الفرنسى"أوجين ديلاكروا"(1798-1863)قد سافر إلى «المغرب العربى» و زار«الجزائر »(1832) وتنسب لوحته الرائعة" نساء جزائريات"(1798-1863) التى صورت غرابة الشرق وسحره في عيون الغرب، الذى وصل افتتان فنانيه «بالجزائر» إلى الحد الذى جعل الشاهر الفرنسى الرومانسى " تيوفيل جوتيه" (1811-1872) يصرح بقوله:" لقد أصبحت الجزائر بالنسبة للمصورين أكثر أهمية من الحج إلى روما". غير أن "دولاكروا" الذى تعرف إلى نمط معين من الحياة الشرقية، قد أتت لوحته كتجميع لمشاهداته، واهتم بإظهار الزينة بشكل جميل وملفت للنظر ،ورسم جو الاسترخاء الذى يحيط بالنسوة ،وإحداهن متكئة على وسادة ،كأنها شاردة . أما الفنان" ماتيس" الذى سافر هو الآخر إلى «المغرب» و«الجزائر» فلم تكن رحلته بغرض استيعاب الزخارف الإسلامية لإضافة نكهة غريبة للوحاته ،وإنما بهدف اكتشاف قواسم مشتركة مع الجمالية الإسلامية بالتعمق في رسوم «المخطوطات الفارسية» و«بلاطات القاشانى المغربية»، والنفوذ عبر الفضاء الأكثر براحاً حيث يفسح لوحدات لوحاته بأن تنطلق خلال فراغ السطح بحرية. وفى الحقيقة أن الثقافات لاتظل كيانات مغلقة،فهي تأخذ وتعطى. وعلى عكس «النظرة الفوقية» من الغرب «للثقافات غير الغربية »،على اعتبار أن الشرق مقارنة بالغرب أقل تحضراً . فإن "ماتيس" رسم «المغربيات» في لوحاته متمدينات يتمتعن بالاحترام، بينما صور "ديلاكروا" «الشرق »وكأنه مايزال بعيداً عن «المدنية الأوربية» للقرن التاسع عشر. لقد اكتشف"ماتيس" الجانب المضئ من "ثقافة الشرق" و"الفن الإسلامى" الذى تفَهم منه مضمون "الجاذبية" التى مصدرها عدم تمكن العين من أن ترسو أثناء التأمل على نقطة واحدة، بل تستمر في حركتها في أنحاء سطح العمل الفنى كله ، وينتج عن ذلك الشعور بـ"الجمال" المتمثل في السكينة والسمو من المادى إلى الروحى، والفكرة الجمالية تتحقق مع التحرر من حدود الإطار ومع نفوذ الأشكال في لوحاتة إلى ما بعد الحدود.ولم يضحى "ماتيس" بمبدأى «المعاصرة» و«العالمية»، رغم استيعابه لتجربة" الفن الشرقى الإسلامى" الذى يعتمد على عناصر "النقوش النباتية" التى تنساب بمرونة وتماوج ،وعلى" الأنماط الهندسية" التى تتشكل من أشكال مركبة،وعلى أساس أن تحقق التأثير بحركة إيقاعية ، متمثلة في الخروج من المركز والعودة إليه . وفى الواقع أن السؤال عن العلاقة بين الفنون والثقافة حول كيفية تعزيز "التنوع الثقافى" و"الحوار" وتعميق الفهم بين الثقافات المختلفة، من منطلق حركة الفن التى تضم أساليب عديدة ، تقوم على التجريب والتفاعل مع أنواع مختلفة من الثقافات التى تشكل تراثا مشتركاً بين البشر، وعلى بناء الجسور بين الشعوب، والاعتراف بأهمية التجديد لبناء ثقافة متطورة، لتقف في مواجهة هيمنة ثقافة ما ، قد تمارس تهديدها بتعطيل فكرة التعايش. والأفضل أن يقبل المتحاورون نقاط الاتفاق والخلاف ،وصولاً لمناطق تفاهمات مشتركة. وبدلاً من «الصراع» بين المختلفين، يعزز التنوع في التعبير الفنى المشاركة في التعبير وتبادل الخبرات ووجهات النظر، لتوفير فضاءات أكثر اتساعاً لقبول الآخر.بل أن "الحوار بين الثقافات" المختلفة هو السبيل للتخلص من التقوقع حول «الأفكار المغلقة »أوالمفاهيم المسبقة والقوالب النمطية. وبفضل "التفاعل المشترك بين الثقافات" تحل "الصراعات" و"النزاعات العنصرية" وتتولد المفاهيم الأكثر إنسانية وتتسع مساحات "الإبداع الفنى "بمنظور" التعددية الثقافية" ،فيمتد نحو حقول أخرى دون "هيمنة أيديولوجية "من ثقافة تدعى "المركزية "على أخرى.ولم يكن موقف"ماتيس" من "الفن الإسلامى "هو "التبعية" ،وإنما إعادة الاكتشاف في ضوء رؤية مستحدثة وصيغة عصرية.لقد استطاع أن "يقدم تفسيراً إبداعياً معاصراً لفكرة القابلة للعطاء بحيوية متجددة ،من خلال عدد آخر من الوثبات الخيالية المستحدثة."(13)
مصادر:
1- محسن عطيه: الفن والجمال في عصر النهضة،عالم الكتب،القاهرة ص41.
2- محسن عطيه:الفن والحياةالاجتماعية عالم الكتبالقاهرة 2007 ص77
3-محسن عطيه :اكتشاف الجمال في الفن والطبيعة ،عالم الكتب ، القاهرة2005 الصفحة 164
4-محسن عطيه :الفنون والإنسان، عالم الكتب، القاهرة 2010الصفحة 122
5-محسن عطيه : موضوعات في الفنونالاسلامية،عالم الكتب ،القاهرة2005 الصفحة 73
6-محسن عطيه : الفنون والإنسان،الصفحة 123&124 :
7- محسن عطيه :اتجاهات في الفن الحديث ،عالم الكتب ،القاهرة الصفحة152
8-توماس مونرو:التطور في الفنون ،الجزء الثانى، ترجمة محمد على أبودرة واخرين، الهيئة المصرية للكتاب ،1972 الصفحة 145
9-Magdalena Dabrowski:Geometric Abstraction,The Metropolitan Museum of Art ,2000
10- محسن عطيه:التجربة النقدية في الفنون التشكيلية،عالم الكتب ،القاهرة2011الصفحة 143
11-سيدنى فنكلشتين ،ترجمة مجاهد عبدالمنعم مجاهد،الهيئة المصرية للتأليف والترجمة،1971 الصفحة195
12- Edward Lucie-Smith :Art Now from Abstract Expressionism to Superrealism Wiliam Morrow and compony.INC,New York 1977,P 332
13- محسن عطيه:آفاق جديدة للفن،عالمالكتب، القاهرة2005 الصفحة 143