انتقل إلى المحتوى

الفن والتكنولوجيا

من ويكي الكتب

بقلم: د. محسن عطيه

تأثير التكنولوجيا على الفن

غالبًا ما يُنظر إلي التكنولوجيا والفن باعتبارهما قطاعين متميزين في العصر الحديث غير أنهما كانا مرتبطين دائماً على مر العصور ارتباطًا جوهريًا ، فمع تطور أحدهما، يتطور الآخر. وهذا يعني تغييرات ليس فقط في طريقة إنشاء الفن، بل وأيضًا في طريقة رؤية الفن وتقديره. ومنذ القرن العشرين ، ومع تطورالتكنولوجيا أصبح تأثيرها على أدوات ومعدات العصر كبيراً، وكذلك أثرت على أدوات الفنان وعلى ومعدات فنهم وعلى طرق تعليم الفنون. هكذا تعتبر التكنولوجيا أحد العناصر الأساسية في البيئات الفنية. فإن القدرة على إنتاج الفن والتكنولوجيا هي من السمات الإنسانية المتأصلة، كذلك تطورت التكنولوجيا منذ منتصف القرن التاسع عشر فصاعدًا. حيث اختراع التصوير الفوتوغرافي باعتباره تحديًا لنظام الفنون الجميلة، وباعتباره شيئًا أدى في النهاية إلى التشكيك في فكرة العمل ذاتها؛ والرؤى التكنولوجية للمستقبلية، وخاصة البنائية، حيث تم دمج التكنولوجيا الصناعية في جوهر الفن ذاته؛ وهناك نظريات "الزمان والمكان" في عشرينيات القرن العشرين، حيث وصلت فكرة إعادة تشكيل أساس الذاتية والخبرة إلى ذروتها. أن تأثير التكنولوجيا يعني أيضًا تحولًا محتملًا لكل من أشكال الفن والذاتية نفسها، وأنه يؤثر على تلك الإحداثيات الأساسية التي توجد داخلها الموضوعات والأشياء، وأن هذا التحول هو اكتشاف لزمان ومكان جديدين قد يزعزعان في النهاية بنية الوعي ومكانة العالم الذي يسكنه.(1)

الألوان أداة الرسام

كان الإنسان في العصر الحجري القديم مدفوعا برغبة في إعطاء الوجود الحقيقي لتخطيطاته على سطوح الكهوف، بقدر امكاناته وأدواته البدائية، و"قد تمكن في ذلك العصر باستخدام الفرشاة التي صنعت من شعر الحيوان أو من فروع الأشجار، بعد دق حافتها، من السيطرة على رسومه وجعلها أكثر قربا للمنظر الشكلي للحيوان الحقيقي، بعد أن صبغ هذه الرسوم بألوان من المواد الطبيعية التي توفرت في بيئته.(2)أما الفنان المصري القديم، فمع اكتشافه للطبيعة "استطاع أن يتآلف معها، وذلك عندما توصل في أسلوبه إلى الصيغة الموحدة، التي تجمع بين فيض الحساسية المتعاطفة مع الحياة والبيئة الطبيعية من ناحية، ومع الطابع الهندسي من ناحية أخرى .(3)وكانت الصبغات التي استخدمها الفنان معدنية في الغالب، إضافة إلى استخدام بعض أصباغ البحيرات، والتي تميزت بتحمل أشعة الشمس القوية دون أن تتلاشى ، ويضاف البيض و الصمغ والراتنجات. ويبدو أن الطلاء تم وضعه على الجص المجفف، ثم بعد الطلاء تم وضع طبقة واقية من أو الراتنج. وهذا يفسر سبب بقاء العديد من اللوحات التي تعرضت لبعض العوامل، مثل تلك الموجودة على المعابد، بشكل جيد.

الأزرق اللازورد

هذا الأزرق اللازورد الجميل الذي لعب دورا جوهريا في خلق جمال اللوحات المصرية القديمة، اخترعه المصريون كأول صبغة صناعية على الإطلاق(2000 قبل الميلاد). تعرف بالأزرق المصري ، وهذا الأزرق مصنوع من مزيج مسحوق الحجر الجيري والرمل و سيليكات النحاس ومواد أخرى ، ويتم لف هذا الخليط في كرات صغيرة ووضعها في حاوية ووضعها في فرن . ويؤدي التسخين بين 850 إلى 1000 درجة مئوية، إلى تصلب الخليط إلى كتلة زجاجية زرقاء تسمى "فريت" والتي يمكن طحنها إلى صبغة. وهذا اللون هو لون تاج "رمسيس الثالث" في الصورة. ويعود ابتكار هذا الأزرق الرائع إلى الأسرة الرابعة والدولة الوسطى، منذ حوالي 4500 عام. ومع ذلك، بحلول عصر الدولة الحديثة، استخدم بكثرة كصبغة في الرسم ، مثل رسم أنوبيس في مقبرة "حورمحب" في وادي الملوك، الدولة الحديثة، وكذلك الصحن الخزفي الأزرق من الدولة الحديثة(1400-1325 قبل الميلاد): كان الأزرق المصري هو أقدم صبغة صناعية معروفة في العالم. نشأ في مصر منذ أكثر من 5000 عام، حوالي 3300 قبل الميلاد. كانت مراكز الإنتاج المعروفة في تل العمارنة وممفيس، وفي العصر الروماني تم تصنيعه أيضًا في جنوب إيطاليا، حول خليج نابولي.وكان الفنان المصري القديم" يختار ا للوان المشرقة ، أملا أن تجتاز هذه الألوان بالنفس عالم الأرض إلى عالم اللسماء، فتشرق سكنة صاحب النقبرة في الحياة الآخرة."(4) كان إنتاج الأزرق المصري غير مكلف نسبيًا وتم تداوله في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية كبديل أقل تكلفة للنيلي، الذي تم استيراده من الهند. في اللغة المصرية القديمة، كان الأزرق المصري يُعرف باسم hsbd-iryt، والذي يعني اللازورد الاصطناعي. وبعد ذلك استخدمه الفنان الهولندي "فيرمير" في رسم " الفتاة ذات القرط اللؤلؤي (1665).

صحن وحامل من الخزف الأزرق، المملكة الحديثة (1400-1325 قبل الميلاد)

ولا يكتفي الفنان بتجسيد الحساسيات أو الأفكار التي تسود بيئته بفضل إتقانه لأداة معينة، وهي تقنيته الخاصة. ولا يستعين الفنان بالقيم الكامنة من أجل إعطائها شكلًا ملموسًا. فهو في الأساس خالق. والفن هو بناء. والفنان لا يترجم؛ بل يخترع. ولا يكتفي الفنان بتجسيد الحساسيات أو الأفكار التي تسود بيئته بفضل إتقانه لأداة معينة، وهي تقنيته الخاصة. ولا يستعين الفنان بالقيم الكامنة من أجل إعطائها شكلًا ملموسًا. فهو في الأساس خالق. والفن هو بناء. والفنان لا يترجم؛ بل يخترع. فإن " الفن هو إحدى وظائف الإنسان الدائمة، وبالتالي، يجب دراسته في علاقة مع وظائف أخرى، مثل التقنية ..،والرسام المعاصر لا يستخدم نفس الألوان التي استخدمها ، المصريون أو فنانو عصر النهضة. فضلاً عن ذلك، فهو لا يفكر بنفس الطريقة في العلاقات بين عمله والعالم المادي."(5)

ويقدم الفن طرقًا أكثر مباشرة وأكثر تكيفًا مع تجربة نفسية وعملية جديدة لعالم تحول تمامًا بفعل التكنولوجيا. وعندما يكون هناك ابتكار حقيقي في قدرة الإنسان على تحويل المواد، فإن الابتكار المقابل في الفكر المجازي يصبح ضروريًا. ويبرر هذا الابتكار تغييرًا في العادات والأفكار وكل أشكال النشاط البشري، على أساس إعادة تشكيل ليس فقط أطر الإدراك ولكن أيضًا المعرفة.

اكتشاف الأحمر القرمزي فائق اللمعان

سوف تفتقد لوحة الكاردينال التي رسمها فنان "عصر النهضة" الإيطالي "رفائيل سانزيو" سنة 1510 الكثير من رونقها ومعناها، ومن وقوة تأثيرها العاطفي وهيبة الشخصية المصورة، بدون ذلك الأحمر القرمزي اللامع ، بتأثيره الزجاجي غير المسبوق الذي أنتجته في عصر سابق ثقافة "باراكاس" في "الأنديز" (البيرو 800- 100 قبل الميلاد). وفي القرن الأول قبل الميلاد كذلك، رسمت بهذا الأحمر القرمزي النقي جداريات "فيلا الألغاز في بومبي"(الحضارة الرومانية القديمة). هذه الصبغة الحمراء القرمزية، لم تكن معروفة للفنانين قبل اكتشافها في القرن الأول قبل الميلاد، حيث اكتشفت الصبغة الحمراء القرمزية المستخرجة من الخنفساء القرمزية ، ثم وضع طبقات منها فوق المغرة الحمراء لزيادة كثافتها. ومنذ هذه الحقبة استحوذت على اهتمام الفنانين لعدة قرون، وقبل ذلك في العصر الحجري( 15000سنة قبل الميلاد) كان ألأحمر الذي استخدم في رسم جدران كهف " ألتاميرا"( إسبانيا) هو عبارة عن صبغة طينية طبيعية(المغرة الحمراء - معدن الهيماتيت).

رافائيل -الكاردينال

الأبحاث العلمية وإبداعات الفن

وإذ كانت التكنولوجيا في الفن اليوم تتحدى تصوراتنا عن الإبداع في الفن، فإنها كانت كذلك دائما وراء انجازات الفنانين. ونتذكرهنا تأثيرالأبحاث العلمية التي قام بها في عصر النهضة الفنان الشهير "ليوناردو دافنشي"(1452-1519)، وأيضا تلك الأبحاث في ميكانيكية الإدراك وكيف تتكون الصورة في العين ، بالإضافة إلى نظرية الألوان التي تقدم مجموعةٍ من القواعد والمبادئ التوجيهية التي تتعلق بالاستخدامات المختلفة للألوان، بما يخدم المعايير الجمالية المختلفة، فكلها أحدثت تحولاً في أنشطة ممارسة الفنون البصرية. ومع هذه الأبحاث العلمية ولد فهم مختلف تمامًا للإنتاج الإبداعي وللعلاقة بين الفن والتكنولوجيا. فإن للاختراعات والابتكارات تأثيرها على المبدعين، لإنها انعكاس للزمن الذي صنعت فيه، وجزء أساسي من طبيعة الفن. والمنظور يشبه آلة تمنح الرسم من الطبيعة شكلاً فنيا جماليا مصطنعا بطريقته." كانت لوحة العشاء الأخير ( 1495-1498) هي أشهر أعماله التي استخدم فيها المنظور الخطي، استخداما واضحاً يهدف إلى إعطاء الإحساس بالحركة في فراغ الصورة ، وإكساب الأشخاصى البعيدة منطقية بصرية. (6) وقد اختار " ليوناردو" لتنفيذ عمله مزيجاً من زيت الكتان والراتنج ، ولما كان الجدار رطبا ً، فذلك كان سببا في اتلاف الصورة ، مما دعا إلى ترميم اللوحة عدة مرات. وقد نتج عن ذلك تغيرات بسبب تلك الترميمات، ومع ذلك ظل العمل يحتفظ بسحره، ذلك السحر الذي تعكسه عناصر النور والهواء والفراغ . إذ يمتلك الفنان القدرة على التعبير بالخطوط عن كل ما يجول في خاطره.

ليوناردو دافنشي- العشاء الأخير

اختراع تقنية "سفوماتو"

لولا اختراع فنان عصر النهضة "ليوناردو دافنشي" (1452- 1519) لتقنية "سفوماتو" Sfumato في الرسم لما توصل إلى منح لوحة "الموناليزا" ذلك التأثير الجوي الضبابي المدهش الذي هو السر وراء جمال اللوحة وجاذبيتها. هذه التقنية تتميز بالانتقالات الدقيقة بين المناطق اللونية، بطريقة تختفي معها الخطوط أو الحدود، ويصبح التأثير مشابها لصورة متشكلة من الدخان تنبض بالحياة. وكان الفنان وهو يرسم لوحة "الموناليزا" يضع طبقات رقيقة جدًا وشفافة من الطلاء الزيتي طبقة فوق أخرى، حتى ظهرت الصورة متوهجة في هدوء. في الواقع. وسمحت هذه التقنية بإعطاء التأثير بشفافية بشرة المرأة على نحو واقعي، وبخلق حضور ثلاثي الأبعاد نابض بالحياة، وهذا بفضل اختراع تقنية "سفوماتو" التي تعني بالإيطالية حرفيا" صعد في الدخان" وفي الرسم، يلغي الفن الخطوط المحيطية لتحقيق التداخل بين الشكل والجو، وخلق انتقالات غير محسوسة بين الضوء والظل، وأحياناً بين الألوان، باستخدام ضربات الفرشاة الدقيقة للغاية بحيث لا تكون مرئية للعين المجردة، ومزج كل شيء "بلا حدود، بطريقة الدخان". وهذه الطريقة التي تمنح الصورة جودة أثيرية وغموضا ساحرا، لم يعرفها الفنانون قبل أن يخترعها " دافنشي" ويتقنها.

غرفة الكاميرا والإبداع المذهل

لقد استعان الرسامون منذ القرن الخامس عشر ، ومنهم " جان فيرمير" Johannes Vermeer في القرن 17 بالأدوات المركبة من العدسات والمرايا لتحقيق تأثيرات الصورة الواقعية. أما جهاز "حجرة الكاميرا" الذي استخدمه "فيرمير" وقام ببنائه بنفسه، فيشتمل على عدسة تعرض صورة مثالية لجانب واحد من الغرفة على سطح مستو، مما ساهم في منح لوحاته التأثير الواقعي بقيمه اللونية، بدرجة لم يكن بوسعه تحقيقها اعتمادا على الرؤية البصرية. لقد اكتشف " فرمير" أنه بإمكانه رسم صورة ملونة مطابقة تماما، عندما يعكسها من خلال عدسة على مرآة صغيرة موضوعة بزاوية، بين عينه وسطح اللوحة. "ومن المعروف أن "فيرمير" لم يتلق تدريباً رسميا، وكذلك لا يوجد ما يدل على أن قيام "فيرمير" بعمل رسومات تحضيرية للوحاته. كما أن لمعظم لوحاته مثل "امرأة مع إبريق الماء" و" ذات الرداء الأزرق تقرأ رسالة"و" امرأة مع عقد من اللؤلؤ" تركيبات متشابهة ، تتضمن شخصية مضاءة بواسطة نافذة على يسارالإطار، لا تختلف كثيرا عن لوحة "خادمة الحليب" (حوالي 1654) ، ومن المحتمل أنها رسمت في نفس الغرفة.غير أن الإبداع المذهل للوحاته، لا يرجع إلى مجرد القدرة على النسخ المطابق بدقة. وقد يعتبر البعض أن اختراع "فيرمير" واستخدمه لجهاز بصري، شيئاً يقلل من الاعتراف بعبقريته الفنية. إلا أن الفنانين العظماء في كل العصور كانوا يستخدمون أدوات وتقنيات جديدة وذكية.

جان فرمير= خادمة الحليب

ان البحث الذي لا يهدأ كان عن وسائل للتعبير عن الفكرة الرئيسية في فن الباروك " أي التعبيرعن القوة حيث أن" سمات ب الباروك المدركة ،..، كانت أداة للتعبير الأكمل عما في أسلوب الباروك من قوة، وشدة، وحركة، وروعة، سواء قصد بها الفنانون أن تكون كذلك أو لم يقصدوا. وفي هذا الصدد يستطيع المرء أن يرى كيف أن الأسلوب الكلاسيكي، المتمثل في تفصيل الخطوط وانعزالها..، وترتيب الأشياء المستقرة..، تعوق الاندفاع إلى تعبيرات أقوى عن القوة. ثم كيف أن غمر هذه المناطق بالضوء واللون، والتركيب ، والحركة الممثلة في طريق واحد موحد ، يمكن أنتساعد على انطلاق الطاقة المتجمعة لعالم جديد أكثر اتساعا."(7) وقد ينتشر أسلوب معين بسرعة ثم يزول ويحل محله أسلوب آخر. ومن المعروف أن أسلوب الباروك كان " يركزعلى التأثير بالحركة، والتعبير عن القوة، وبلغ ذروة اكتمالة في التأليف بين مختلف مكونات العمل الفني ككل متناسق."(8)

اختراع أنبوب الطلاء

أنظر إلى لوحة الفنان الفرنسي "كلود مونيه" إنها واحدة من سلسلة (25 لوحة) بعنوان "أكوام التبن"(1891). هل تعجبك الطريقة التي استطاع بها الفنان الانطباعي التقاط الانطباعات العابرة للضوء واللون التي تم تجربتها في العالم الطبيعي؟ لم يكن هذا التأثير الذي يحتفل بالعالم الطبيعي وبضوء الشمس ليتحقق لولا اختراع طريقة للحفاظ على الألوان الزيتية من الجفاف، قبل أن يتمكن الفنان من استخدامها عندما يرسم في الهواء الطلق. ذلك الاختراع الثوري هو أنبوب الطلاء القابل للطي والمصنوع من القصدير ومختوم بغطاء لولبي، مما يمنح الطلاء فترة صلاحية طويلة، ولا يتسرب ويمكن فتحه وإغلاقه بشكل متكرر. وكان هذا الاكتشاف بالضبط ما احتاجه الانطباعيون لتشجيعهم على الهروب من حدود الاستوديو، ليأخذوا إلهامهم مباشرة من العالم من حولهم، وخاصة تأثير الضوء الطبيعي. لأول مرة في التاريخ، أصبح من العملي إنتاج لوحة زيتية نهائية في الموقع، على الرغم من أن نقاد الفن قد يجادلون منذ فترة طويلة حول ما إذا كانت اللوحات الانطباعية "مكتملة" حقًا.وفي لوحة مونيه كل شيء مغلف بالمحيط الشمسي وبذلك تكون " الصورة ليست تعبيرا لمجموعة من العناصر، ولكنها الجو المنبثة فيه هذه العتاصر.، إ؟ذ أن ا؟لأشياء ليست لها ظألوان ثابتة ، وتتغير الألوان تبعاً لانعكاسات الجو المحيط بها ، هذا هو مانراه." (9)

كلود مونيه - أكوام التبن

اختراع الرسم العفوي- الخيالي

اخترع الإسباني "خوان ميرو" Joan Miró(1893-1893) الرسم العفوي والخيالي بالبقع اللونية. حيث ينقع الطلاء السائل لينزف في نسيج القماش غير المجهز، وبدلاً من البدء في رسم شيء ما، تبدأ الصورة في تأكيد نفسها أثناء الرسم، أو تقترح نفسها مع ضربة الفرشاة. ويصبح الشكل علامة لامرأة أو طائر. تجري عملية الرسم بحرية غير واعية، ثم يتبع "ميرو" ذلك بتخطيطات محسوبة بعناية. وبذلك المزيج، يتحقق التوازن بين الانجراف والهجوم، وبين الارتجال والفكر المدروس، مما يمنح العمل اتزانًا قويا ومدهشاً. لقد حرر الفنان تقنياته بالتجرؤ على لصق أشياء على صوره، مثل قطعة من السلك ملتفة، أو قطعة من الفلين. وعادة يطلي هذا الفنان مساحات في لوحته لتشبه الحقول اللونية الشاسعة، بعضها ملطخ، وبعضها مصبوغ بشكل كثيف. وبالتحديق في المساحة المفتوحة، يستنبط المشاهد أشكالا وعلامات موحية. وبأسلوبه اخترع "ميرو" نوعًا جديدًا من المساحة التصويرية استكشفه في السريالية، حيث يستدعي العلامات المرسومة بعناية ودقة من خياله، ويجاورها بإيماءات صورية يمكن التعرف عليها. وبذلك تدفع عاطفته تعبيره الذي يختزل الأشكال ويحولها إلى مخططات مجردة أو إلى إيماءات تصويرية. ورغم حرصه لاستكشاف وسائل مختلفة يمكن من خلالها تفكيك مبادئ التمثيل التقليدية، وازن بين مراعاة العفوية والأتوماتية التي تتبع النهج السريالي من جهة، ومراعاة دقة تخطيط وتنفيذ العمل الفني في شكله النهائي، وذلك يفسر استخدام ميرو لمجوعة محدودة من الألوان النقية وخلفيات مسطحة بتدرجات محدودة، إلا أن الألوان ظهرت هذه الألوان جريئة ومعبرة. وقد استخدم في رسم لوحة "امرأة ذات قبعة حمراء"(1927) أشكالًا مجردة بسيطة على خلفية زرقاء، مرسومة بضربات فرشاة موحدة. أشكال صغيرة في مساحات شاسعة فارغة. أما الخط الأحمر المائل قليلاً فقد أضاف تباينًا مثيرا، وساهم في التركيز على الامتداد اللامتناهي في الفضاء، حيث الحقل الأزرق الذي هو لون السماء الشاسعة، وأيضًا هو لون أحلام الفنان. ووسط الأزرق تستحضر الأشكال السوداء المستديرة غير المنتظمة، والممتدة عبر الأفق، لغة من العلامات خاصة. أن ما نستخلصه من لوحة "امرأة ذات قبعة حمراء". هو أن الفنان برسمها كان يتحرر من قيود التمثيل الحرفي؛ ليُترجم معني "لوحة الحلم". لقد جمع" ميرو" بين عناصر الرسم التلقائي والوسائط المختلطة والاستخدام الجريء للألوان، لإنشاء لغة بصرية فريدة وجذابة، وبأسلوب يسمح فيه الفنان ليده بالتحرك بحرية، دون تحكم واعي.

المناظرالطبيعية التجريدية

ومن المعروف أن"المناظر الطبيعية كانت دائماً من الموضوعات الأساسية فى فن الرسم لعقود من الزمان، وكان الفنانون يحاولون فى كل مرحلة، إعادة إنشاء نمط المناظر الطبيعية بطريقةغير تقليدية سواء بأساليب واقعية أومجردة. وعلى الرغم من ذلك، غالبًا ما تتميز الأشكال المعاصرة من "المناظرالطبيعية التجريدية " ، مثل لوحة الفنان "محسن عطيه بعنوان "عندما تشرق شمس الصباح" (2020)، بأنها مختلفة عن أى شىء شوهد من قبل. إنها ذات تصميم حديث يعكس ماضى وحاضر الرسم التجريدى فى نفس الوقت. ونتتمثل روح القرن الحادى والعشرين، فى التصميم الجريئ والتلوين الشفاف والتكوين الغامض. وتظهر العلامات بألوان زاهية وجريئة على خلفية بسيطة ، مع منح القيمة العالية للفورية. لقد كان "محسن عطية"، يبحث برسم لوحة "عندما تشرق شمس الصباح" عن الجانب الساحرالذى يدله عليه خياله، فيمنحه شكلاً مجازياً، يؤكد فيه على قوة اللون وعلى انحناءات الخطوط بإيقاعاته. وباستخدام أساليب الاختزال، يحول الفنان مكونات اللوحة إلى شفرات من صيغ لونية وشكلية، وفى هذه الحالة ينهار الائتلاف بين المكونات الطبيعية،غير أنه مع كل إنهيار ينشأ ائتلاف جديد. وتصبح اللوحة فى حالة توازن معلق بين التوتر والسكون. ولا يكون لأى جزء من اللوحة معنى إلا فى إطار الكل. ورغم المدى البعيد فى تجريدية اللوحة، يمكن العثور فيها على مصدر الموضوع ومعناه،بحيث تطوف الأشكال على نحو ارتجالى فى فضاء غير محدود. وهنا تتزامن تجريدية زمن الحداثة مع تجريدية الزمن الحاضر، كنوع من التبادل الثقافى في بداية القرن الحادى والعشرين. ورغم التأرجح بين التفاؤل واليأس، توجد قناعة بسيادة الفن وقدرته على فهم عالم متغيربشكل غزير. وبالنظر إلى العلاقة المحددة بين الحداثة والمعاصرة، فإن الفن التجريدى يوفر نماذج جمالية أكثر صلة، ويقدم للمشاهد إمكانية اللقاء الفورى العمل الفنى. ويلاحظ هنا أن لدى الفنان رغبة نحو تفكيك العناصر الشكلية، فى تحدى تقاليد الفن التمثيلى، مقتربا أكثرمادة الفن كغاية فى حد ذاتها بدلاً من اعتبارها مجرد وسيلة. وقد استلهم الفنان استكشافات السرياليين لدور اللاوعى فى العملية الفنية. وبالعفوية والحركة ساهمت حقول الألوان طبقات الطلاء، وحرر الفنان نفسه من القلق العاطفى. التي تحفز فيهم نوعًا من التنفيس. اللوحة لدى"محسن عطيه" هى بمثابة "عالم من القداسة والخلوة وطقوس يقيمها وهو في حالة الفيض الروحي التأملي المغرض في التجريب ، لذا تأتي لوحاته ضمن هذا السياق الروحي الكنسي الشعوري الفلسفي ، فيترك ألوانه تنسكب وتجري بفيضها على خامة لوحته دون أن يقيدها ويرسم الأخاديد والتضاريس التي تجري فيها، فتتشعب الأنهر على السطح وتتشظى كأن حالة فيضان هائجة اجتاحت أراضي سطوح لوحاته فتتحدد وتتقوض قدراته للجم هذا الفيضان اللوني وهو متماهي معه لأنه يعيش في حالة الهيام والتوحد والانصهار معها ومع ما يختلج في خاطره ووجدانه من مشاعر وأفكار في لحظة التصوف، فتأتي أشكاله وتكويناته هيولية غير تشخيصية وتمثلية رغم اعطائها شكلا وشخصية مجسمة غير واضحة الملامح توحي، ولم تقل وتشير ولكنها لا تفصح عن حالة يقينية للمعنى كما نلمسها في اعماله على سبيل المثال لا الحصر " الطريقة السحرية و الركن البعيد واللحظة الأخيرة والمرح في الشمس وتحذير مؤقت وتغييرات موسمية وغيرها " .طقوس وعوالم محسن عطية بمثابة تجريد المجرد ولغة لونية متفجرة ايحائية فيحيل طاقة اللون الى مفردات جمالية ناطقة تجذب المتلقي لفلسفتها وحقلها المعرفي ، فاللون لدى عطية ليس مادة صبغية تترك أثرا وشكلا لكنها تؤسس بطرقية احترافية خطابا وفلسفة انتهاء بالمتعة التي تشكل حالة المنتهى والغاية التي يسعى الفنان الوصول اليها ، والمنتهى هو حالة الشغف والنشوة " Passion and euphoria" لدى الاثنين منتج الخطاب ومتلقيه."(10)

محسن عطيه،عندما تشرق شمس الصباح (2020)

اختراع الصورة الفوتوغرافي

وفي خمسينيات القرن التاسع عشر، نشأت الانطباعية التي تعد نوعاً من الاستجابة إلى حد ما للتصوير الفوتوغرافي. لقد أراد الفنانون مثل التصوير الفوتوغرافي التقاط "لمحة " من الواقع مثلما يفعل التصوير الفوتوغرافي، مما خلق فرصًا فنية لتطوير تقنيات الرسم الجديدة. وبدلاً من التنافس مع قدرة الصورة على تسجيل "لحظة الحقيقة"، شعر الانطباعيون، بحرية تمثيل ما يرى بطريقة مختلفة - بالتركيز أكثر على الضوء واللون والحركة. وبالنسبة للفنان "إدجار ديجا" Edgar Degas أصبحت الصورة الفوتوغرافية مصدر إلهام لطرق جديدة في الرسم باستخدام تقنيات أكثر تجريبية. وقد أراد "ديجا" أن يحصل على التأثير الذي ينتج عن التصوير الفوتوغرافي بالحركة السلسة الجميلة والتحديدات غير الواضحة بأناقة. فكان مفتونًا كفنان انطباعي بقدرة الكاميرا على التقاط لحظة من الزمن. ومن الأمثلة على استخدام معرفة " ديجا" بالتصوير الفوتوغرافي في فنه، لوحاته لخيول السباق. حيث ظهرت أقدام الحصان وكأنها تترك الأرض في تسلسل متدحرج، كما يبدو وكأن الفنان يقتطع جزءا فقط يختاره من موضوع الصورة، مما يخلق الوهم بأن هناك مشهد أكبر، خارج نطاق الرؤية. والتصوير الفوتوغرافي، رغم الادعاء بأنه يحد من جاذبية اللوحات، قدم للفنانين وجهات نظر جديدة، وبترجمة تقنياته في الرسم، تمكن" ديجا" من التقاط الحياة اليومية بإحساس أكبر بالحيوية والحميمية.( إدجار ديجا - قبل السباق، 1882-1884).

ديجا -قبل السباق ، 1882

اختراع تقنية الكولاج

في سنة 1912 اخترع "بابلو بيكاسو" تقنية "الكولاج" Collage من خلال لوحته "الحياة الساكنة مع قماش مطبوع على هيئة قش الكراسي"، ولم يكن من أعراف فن رسم اللوحات أن يرفق الفنان مادة من العالم الحقيقي، بل يعتبر في ذلك الوقت انتهاكا لنقاء نمط العمل الفني. ومع ذلك، تم الاعتراف بـ" الكولاج" كتقنية جديدة وهامة لصنع الفن، ضمن تاريخ "التكعيبية"(1907-1914) وكشكل فني جديد، ضمن اتجاهات الفن الحديث بأكمله في القرن العشرين، مما ساهم في توسيع تعريف الفن وما جعل الفنان يلصق شيئا ماديا في لوحته، هو الحاجة للاتصال بالواقع بدلاً من التجريد المتزايد للتكعيبية التحليلية. وكرمزية جمالية للإشارة إلى الطبيعة الحقيقية للأشياء. لقد سمح استخدام" بيكاسو" في لوحته للمواد الملموسة، مثل قصاصات الصحف، والنوتة الموسيقية، والأقمشة، والمعادن والحبال والكتابة، بقدر كبير من الحرية الإبداعية. تلك التحولات الثورية. بهذه التقنية الجديدة التي تسمح بإضافة الأشياء المنتجة صناعيًا، قد جعلت الفنان بعد عام 1915 يكاد أن يتوقف عن استخدام طريقة الرسم باستخدام الفرشاة وأنابيب الألوان الزيتية. وفي كل الأحوال تفتح مثل هذه المسائل مجالا للمناقشة حول العلاقة بين الفن والحرف، والسؤال الشائع هنا هو: هل يمكن أن يظل الشيء فنًا بينما لم يقم إنسان بصنع شكله بنفسه؟ وهل يقلل من قيمة العمل استخدام تقنية "الكولاج"، حيث كانت لم تصنع العناصر التي تشكل القطعة الفنية بيد الفنان؟ وهل كل من يستخدم تقنية "الكولاج" يستطيع أن ينتج أعمالاً فنية في مستوى القيمة الإبداعية للوحات " بيكاسو"؟ . لقد أتاحت العديد من الحديثة التقنيات الفرصة لغير الفنانين بالتعامل معها إلا أنه ليس بمقدور أي إنسان أن يتوصل باستخدامه للتكنولوجيا أن يحقق مستوى الإبداع الذي توصل إلية الفنان "بيكاسو ". وبالفعل قد استخدم الفنانون بعد "بيكاسو" تقنية الكولاج، ومنهم "ماكس ارنست" و"هنري ماتيس" وحققوا نوعيات أخرى غير نوعية إبداع "بيكاسو" من حيث التصورات والغايات الفنية ومفهوم كل فنان عن ما هو "الجميل" أو "المدهش" أو "المعبر" ومن حيث نفسية الفنان وتكوينه العاطفي و الثقافي و توجهاته في الحياة.

اختراع النحت التركيبي

التكنولوجيا الإبداعية هي نتاج الجمع بين قوى الفن والتكنولوجيا، ومع نمو قدرات التكنولوجيا يتوصل التعبير الفني إلى إمكانات جديدة. ومثلما للفن دوره في تطوير تجارب التكنولوجيا، نجد التكنولوجيا في المقابل تعمل على تطوير امكانيات الفن. أما منحوتة "بابلو بيكاسو" Pablo Picasso (1881-1973) بعنوان "جيتار" ( 1912)1912 فإنها بمثابة اختراع لتقنية جديدة، وقفزة جذرية تجاوزت كل أعمال النحت التي كان يتم إنجازها سابقًا باستخدام عمليات النمذجة (النحت أو القولبة) مثل نحت الحجر أو الخشب أو الطين، أو التي تم صبها في المعدن. فمنحوتة " جيتار" التي لا تشبه أي منحوتة من قبل، عبارة عن "تركيب" construction يربط أجزاء الشكل معا. وباتباع تقنية التركيب هذه جمع الفنان أجزاء المنحوتة من الكرتون والورق والخيوط والأسلاك، وهي مواد قام بقصها وطيها وخياطتها ولصقها. أما في عام 1914، فقد أعاد " بيكاسو" إنجاز القطعة الورقية الهشة لمنحوتة "الجيتار" في شكل صفائح معدنية أكثر ثباتًا ومتانة. ومن الملاحظ أن كلتا المادتين تختلف تمامًا عن المواد النحتية التقليدية مثل البرونز والخشب والرخام. وقد نتج عن بناء الصفائح المعدنية تبادل اتجاهات التخطيطات في لعبة المادة والفراغ للتأثير بالحجم، في عرض درامي وبطريقة مرنة. أما ثقب صوت الجيتار، الذي من المفترض أن ينفذ لداخل الآلة، فنراه يبرز للخارج ليشغل حيزا في الفضاء. وبهذا الاختراع التقني، تحرر الفنان من التقيد بالحدود التقليدية التي تفصل بين عالمي الرسم والنحت، أي من سطوة الحدود التي تفصل بين الأنواع. وبذلك أصبحت منحوتة "بيكاسو" بمثابة إنجاز جذري في توثيق الرابطة بين التكنولوجيا والفن. وبعد هذا الاختراع للنحت كتركيب، انتشرت النحت التركيبي في إبداعات الفن المعاصر.

بعد اختراع لوحة الحامل Easel painting

ومثلما تسهل التكنولوجيا ممارسة الفن، فإنها تبشر كذلك بمفاهيم جديدة وجوهرية حول "الفن". وهناك الاختراعات التي ظهرت في الماضي وأصبحت الآن متأصلة أعماق الوعي بالفن، عمليًا أو مفاهيميًا، ومن الصعب تخيل شكل الفن بدونها. اما اللوحة "القماش" painting "canvasالتي تجهز بطلاء الجيسو ، كبديل عن اللوحة الجدارية أو الخشبية، وتعرض في إطار لتعلق على الحائط، فلم تكن معروفة في إيطاليا قبل القرن الرابع عشر، بل استغرقت قرونًا حتى تنتشر، إذ كان يُنظر إليها على أنها أقل قيمة. ومع ذلك رسم " بوتيتشيلي" تحفته الأسطورية "ولادة فينوس" (1486) على هذه اللوحة. وبحلول القرن السادس عشر، فضل الفنانون الإيطاليون اللوحة القماش، بعدما أدركوا احتمال تعرض لوحة الخشب للتعفن. كذلك استخدم الهولندي "بول روبنز" لوحة القماش في رسم رائعته" مطاردة ذئب وثعلب" (1616) وبحلول القرن الثامن عشر، انتشرت لوحة "الكانفاس". واليوم أصبح الفن أكثر تشابكًا مع التكنولوجيا، سواء بتوفير طرق جديدة لخلط أنواع مختلفة من الوسائط، أو بالسماح بمزيد من التفاعل البشري أو بتسهيل عملية الرسم. أما استخدام "الحامل" Easel في الرسم فيضمن الشكل العمودي للوحة، مما يسمح بإنتاج العمل الفني في نفس المستوى الذي سيتم تعليقه فيه، كما يساعد في الحفاظ على دقة المنظور بالنسبة للفنان الذي يهدف إلى الواقعية. بينما في في الأربعينيات من القرن الماضي، استغنى الرسام الأمريكي "جاكسون بولوك" Jackson Pollock عن استخدام الحامل في رسم أعمال بحجم الجدار، واخترع أسلوبا شخصيا، تدمج فيه الخطوط النشطة مع التداعي الحر للأنماط الشكلية والصوراللاواعية. وفي عام 1947، استخدم "بولوك" لأول مرة عملية صب أو تقطير الطلاء على قماش مفروش على الأرض، مما سمح بتسجيل قوة ونطاق إيماءاته الجسدية. ونتج عن ذلك مساحات ضخمة مغطاة بأنماط خطية معقدة تدمج الصورة مع الشكل؛ وغمرت هذه الأعمال المشاهد بسبب ضخامة حجمها وتعقيدها.

منحوته الحديد الملحوم -تجربة تقنيات جديدة

بينما ترجع أول منحوتة ملحومة إلى الفنان الروسي "فلاديمير تاتلين" الذي ابتكر قطعته سنة1913، صنع الإسباني "خوليو جونزاليس" Julio González أول منحوتاته من الحديد الملحوم سنة1927، مستخدما المواد الصناعية بطريقة لم تستخدم في الفن. ويعني النحت الملحوم ربط القطع المعدنية وتشكيلها معًا بتقنيات اللحام، أي بصهر ودمج قطعتين أو أكثر من المعدن معًا، باستخدام الحرارة أو الضغط أو مزيج من الاثنين. وهذة التقنية الجديدة قد أدت إلى خلق شكل فني جديد، وفتحت آفاقا لشكل منحوتات الصلب في الفضاء، مثل منحوتة " جونزالس" بعنوان " المنجل الصغير" (1937) من البرونز الملحوم . أما " بيكاسو" فقد طلب مشورة " جزنزاليس" الفنية ومساعدته في إنجاز منحوتاته الملحومة. واليوم، تعد المنحوتات الملحومة شكلاً راسخًا من أشكال الفن المعاصر، حيث يسعي الفنانون باستمرار إلى توسيع حدود ما هو ممكن باستخدام المواد والتكنولوجيا الحديثة. ويلاحظ هنا أن "اللحام" يعد مجرد أداة إبداعية، تشبه فرشاة الرسم، للمساعدة في تحقيق رؤيتهم. هكذا يمكن للفنانين تجربة تقنيات ووسائط جديدة. وبنفس المنطق تفتح تقنية "الذكاء الاصطناعي" عالمًا واسعًا من الإمكانيات الإبداعية للفنانين. فيمكن لبرامج الذكاء الاصطناعي تحليل مجموعة الأعمال الحالية للفنان وإنشاء اقتراحات لاتجاهات جديدة أو حتى إنشاء أعمال فنية جديدة تمامًا تتفق مع أسلوبه. يعزز هذا التفاعل التعاوني بين الفنانين والذكاء الاصطناعي العلاقة التكافلية التي تؤدي إلى إنشاء أعمال فنية جديدة ومبتكرة. من المؤكد أن التقارب بين التكنولوجيا والفن هو من أكثر المجالات إثارة في عالم الفن. أما ويحتمل إنشاء عمل فني بواسطة "الذكاء الاصطناعي" العديد من المسارات المختلفة، ويتوقف الأمر على نوعية الاختيارات، وعادة ترجع تفضيلاتهم الفنية إلى الجماليات التي تعلموها أو يعتنقونها. المهم أن يكون تدخل التكنولوجيا في الفن بهدف المساعدة، مع الوضع في الاعتبار أن قيمة الفن في قدرته على توليد الحلول الإبداعية الجديدة. لأن طريقة "الذكاء الاصطناعي" تختلف عن طريقة الإبداع البشري في معالجة البيانات. فبينما يعتمد "الذكاء الاصطناعي" على توافق البيانات، نجد الإبداع البشري يتجاوز القواعد، بحثا عن حلول جديدة، بالتفكير"خارج الصندوق.

جونزالس- المنجل الصغير

عندما تصبح الآلة فنًا

منذ نشأة الحركة الدَّاديّة Dada (1916-1921) أثناء الحرب العالمية الأولى، كنوع من معاداة الحرب من خلال مناهضة الفن السائد، فدمجت الآلات في الخيال الفني، على اعتبار أن الآلة مبنية على أساس نظام تقني لا يتعارض مع التشكيلات الفنية، بل هو جزء منها. لقد استخدم الفنان الآلة كوسيلة للتعبير. وكشفت باستخدامها عن مشاكل العصر بطريقة ساخرة وغامضة، فتعامل فنانو "الدادية" مع عالم الآلة من زاوية تشبعها بالقوة والسرعة وإحداثها للضوضاء وإصدارها للعوادم، مع تركيزهم على مكوناتها الشكلية ( العجلات والإطارات والتروس ) كعناصر فنية ديناميكية مشحونة بالحركة والعصرية. بشرط أن تظهرالآلة في الفن، مستقلة وتتبع شروطها الخاصة. هكذا تصبح الآلة فنًا. ورغم غرق البشرية في بحرالتكنولوجيا، وما تحدثه سيطرة الالة من توتر، يأتي اقتراح "الآلة كفن". ومع ذلك، فإن كلمة آلة في اللاتينية تعني "اختراع" أو "العمل المصنوع من الفن"، وهذا ما يربطها بالمجال الإبداعي . ومن فناني الآلة السويسري"جان تانجلي" Jean Tinguely ومن منحوتاته المتحركة سلسلة "نافورة"(2010) تنتمي إلى عالم الميكانيكا أو هي آلات ذات وظائف إدراكية، أو "منتجات صناعية لمادة الحلم" بوسعها اختراق وعي المشاهد. فلم يعد هدفها إنجاز العمل، أو المهمة الميكانيكية، قادرة أيضًا على إبادة نفسها. وكان تانجلي قد صمم آلته بعنوان "الإخلاص لنيويورك،" لتكون مبرمجة للتدمير الذاتي خلال العرض(1960 في حديقة النحت في متحف الفن الحديث.) إنه انتصار للآلة القادرة على الإنتاج والتصور والتحكم في وجودها ومصيرها"

جان تانجلي-النافورة 2010

منحوتة ذات عجلات

كذلك الفنان الأمريكي "روبرت راوشنبرج" Robert Rauschenberg (1925-2008) بعقله الثوري، كان باستطاعته دائماً أن يغيرأفكار الفنانين حول ماهية الرسم والنحت ، وبوسعه أن يجعل كل شيء جديدا. فصنع منحوتاته من الخردة المعدنية والمصابيح الكهربائية والعجلات، مما يستدعي إعادة النظر في معايير الحكم على هذه الآلات التي نفذت إلى حقل الفن، فهي بالتأكيد ليست رسمًا ولا نحتًا، وقبولها في عالم الفن كان يمثل مشكلة. إنها آلة صغيرة مربوطة بدلو، غير أنها تبدو في نفس الوقت مثل وحش، تحمل عنوانًا ساخرًا هو "هدية لأبولو"(1959) تم تجميعها من نفايات التصنيع. وتمتلك مثل هذه الإبداعات قوة شخصية غيرعادية، بالرغم من مصدرها الغامضً والمثيرللقلق. وهذه "المنحوتة - الآلة" تحتمل العديد من التفسيرات، وهي تتشكل من دهانات زيتية وأجزاء من سروال رجالي وربطة عنق وخشب، مع دلو معدني وسلسلة حديد ومقبض باب وغسالة معدنية وأسمنت وعجلات مطاطية مجمعة بطريقة تتجاوز الفهم الفوري.

منحوتة الدراجات الزائفة

كذلك الفنان الأمريكي "روبرت راوشنبرج" Robert Rauschenberg (1925-2008) بعقله الثوري، كان باستطاعته دائماً أن يغيرأفكار الفنانين حول ماهية الرسم والنحت ، وبوسعه أن يجعل كل شيء جديدا. فصنع منحوتاته من الخردة المعدنية والمصابيح الكهربائية والعجلات، مما يستدعي إعادة النظر في معايير الحكم على هذه الآلات التي نفذت إلى حقل الفن، فهي بالتأكيد ليست رسمًا ولا نحتًا، وقبولها في عالم الفن كان يمثل مشكلة. إنها دراجتان تم تجميعهما من النفايات. وتمتلك مثل هذه الإبداعات قوة شخصية غيرعادية، بالرغم من مصدرها الغامضً والمثيرللقلق. وهذه "المنحوتة " تحتمل العديد من التفسيرات. لقد اخترع "روبرت راوشينبيرج" منحوتة "ركوب الدراجات" (1998) في برلين عبارة عن دراجتين مثبتتين جنبًا إلى جنب، مع تحديد خطوطهما الخارجية بالألوان بواسطة أنابيب نيون رفيعة. ترتفع المنحوتة فوق بركة من الماء وتشكل مربعًا صغيرًا، ويحده مبنى وينهاوس هوث القديم والمباني الجديدة. وتفقد المنحوتة معناها ووظيفتها كمركبة، لأنها تتكون من دراجتين مثبتتين معًا عجلة مع عجلة. والمركبة الزائفة ذات العجلات الأربع، التي تذكرنا بأعمال" دوشامب" الجاهزة محكوم عليها بالوقوف ساكنة. وبعد أن تم التعبير عن الشكوك حول فكرة التقدم الذي لا يقاوم باعتباره نموذجًا للحداثة، وبعد أن انتقلت السخرية بشكل أقوى إلى وعي الناس كجهاز مناسب، يمكن تفسير المركبات المشلولة التي تقف على عجلاتها الخلفية على أنها دعوة مسلية لإحياء ذكرى.

روبرت راوشنبرج-ركوب الدراجات في برلين

"ديفيد هوكني"يرسم بواسطة iPad

لقد وسعت التكنولوجيا أفق الإبداع، مثلما غيرت الطريقة التي يعمل بها الفنانون. ومن المؤكد أن الألوان الرقمية، تختلف عن الأدوات التقليدية مثل الفرشاة. ويمكن للفنانين إتقان مجموعة كبيرة من التقنيات، حتى يتمكنوا من ترجمة رؤيتهم وإطلاق العنان لخيالهم وإبداعهم. وعندما تتيح الأدوات لخيارات التغيير والتبديل سوف تفتح آفاقًا لا حدود لها للفنانين للتعبير عن أنفسهم بشكل أكثر إبداعًا. كذلك سخرالفنان االبريطاني الشهير"ديفيد هوكني" David Hockney التكنولوجيا، عندما رسم لوحاته بالاستعانة بجهاز iPad الخاص به كأداة أساسية للإبداع. وهناك لوحات زيتية كبيرة الحجم مثل" خشب الشتاء" 2009. مستوحاة من المناظر الطبيعية في يوركشاير، (حوالي مترين وعرضها خمسة) وتشغل جدارًا كاملاً. وقد استخدم "هوكني"التكنولوجيا الجديدة، ولم يعيق كبر سنه (ولد1937) من تعامله مع تكنولوجيا العصر الجديد. لقد أدمن استعمال جهاز iPad ، وتطبيق Apple Brush كوسيلة لالتقاط الإضاءة وظروف المشهد سريعة التغير، مما يمكنه من الرسم في أي وقت وفي أي مكان. وعلى الرغم من أن جهاز iPad لم يحل محل كراسة الرسم الخاصة به بالكامل، إلا أنه يوفر طريقة أسهل بكثير للرسم. وقد شجعه ذلك على السفر إلى بلدان مختلفة. وكان يفضل جهاز iPad نظرًا لشاشته الأكبر حجمًا. كذلك من خلال تطبيق يسمى Brushes Redux،على جهاز iPhone كثيرًا ما قام هوكني بإنشاء رسومات سريعة للزهور على هاتفه . وفي سنة 2009 رسم لوحته "زنابق بواسطة جهاز iPad. ونظرًا لأن جهاز iPad عبارة عن جهاز محمول، فقد كان الفنان قادرًا على التقاط العديد من المشاهد المختلفة دون الحاجة إلى قضاء الوقت في إعداد الحامل أو سحب لوحة الرسم.

الذكاء الاصطناعي ومفهوم الإبداع

قد يفكر البعض أن التكنولوجيا تقطع الرابطة بين الفنان وعمله الفني، وأن إنجاز العمل الفني بسهولة يدل على تفاهته. وهذا طبعا غير صحيح. فليس من الضروري أن يكون الفن معقدًا أو صعب الصنع حتى يكون عظيمًا، ولنتذكر هنا جاهزة الفرنسي "مارسيل دوشامب"( حامل القوارير1914) الذي أراد أن يثبت بعرضها أن جوهر الفن في الفكرة التي يقدمها المؤلف للجمهور، بدلاً من إنجاز القطعة الفنية، على اعتبار أن الفكرة هي التي تؤثر في طريقة تفكير المشاهد وفي شعوره ورؤيته للعالم، وجعله يفكر أو تستفزه ببساطة. أما الفن الذي ينتج بواسطة الذكاء الاصطناعي فإنه ذهب أبعد من ذلك، إذ قلب هذه الفكرة بشكل جذري، لأن هذا "النظام الحاسوبي " لا يكتفي بإنشاء فكرة جديدة لشيء ما فقط، ولكنه ينشئ عملا فنياً. وإذا منحنا الإبداع الذي تعرضه الأنظمة الحاسوبية المشروعية، فينبغي حينئذ تغيير المفهوم المتداول قبل "عصر ما بعد الحداثة".

دوشامب . 1914سخة طبق الأصل من العمل تعود إلى عام 1959، معروضة في معهد شيكاغو للفنون

الإنسان -الآلة –الإبداع

والتهجين بين الإنسان والآلة في العملية الإبداعية، يعني استغلال الفنانين للوسائط المختلفة بتقنياتها المتطورة لإنجاز أعمال فنية أكثر شمولاً، وهو مصطلح يساعد من خلالها يتحقق الانغماس للعديد من الحواس ( البصر والسمع واللمس) ومنذ أواخر الثمانينات الوسائط الجديدة للفن أصبحت متاحة للفنانين ، وكان الأعمال الفنية التي أنجزها "سول ليويت" (1928- 2007) لتي تسمى رسومات الحائط والتي استخدمت منذ سنة 1968، الخوارزميات لتصميمها. واستبعد الفنان فكرة وجود كائن مستقل لفنه. وليس من قبيل المصادفة أن دور فنان الذكاء الاصطناعي الذي استخدم الشبكات التوليدية في أعماله كمبدع يشبه دور الفنان "سول لويت"، الذي اشتهر بكتابة التعليمات أو لإنشاء الرسومات، ثم مطالبة الآخرين بتنفيذ القواعد لإنشاء أعماله الفنية. (العمل المرفق من رسومات الحائط 2005).

سول لويت -ورسومات الحائط 2005

الآلة - قصدية الفنان

ليس الإبداع موهبة غامضة تتجاوز الدراسة العلمية. وإذا كانت برامج الكمبيوتر الحالية للآلة الذكية غير البيولوجية تفتقر إلى إظهار قصدية الفنان أثناء معالجة الرموز. غير أننا نعجب بالرسوم على جدران كهوف" لاسكو" في فرنسا التي ترجع إلى العصر الحجري، دون أن نفكر كثيرًا عن فنانين محددين قاموا بصنعها. كلك الكثير من أعمال الفن الحديث والمعاصر تتضمن رسائل مبهمة، وتحتاج إلى التعرف على سبب اعتبارها من أعمال الفن المهمة ، مثل جواهز "دوشامب" أو لوحات "علب حساء"(1962) "آندي وارهول". فرغم أنها تدل على نية الفنان إلا أنه يصعب على معظم المشاهدين فهمها.

دوشامب- علب الحساء 1962

برنامجDALL·E آداة إبداعية

تتمثل مهمة البرنامج الخاص DALL-E في إنشاء الصور اعتمادا على الأوصاف النصية بواسطة وظيفة الذكاء الاصطناعي. ويمكن لبرنامجDALL·E أن يحدث تغييرات داخل الصورة التي تم إنشاؤها أو تحميلها، أو يُنشئ صورًا وأعمالًا فنية أصلية من وصف باللغة، كأداة إبداعية. فمثلا عندما يطلب من البرنامج إنشاء صور"طبيعة صامتة" بطراز هولندي يرجع إلى "عصر النهضة" سوف ينشئ أربعة خيارات، لنختار منها الأقرب للصورة المتخيلة. ويمكان أن يطلب من البرنامج أيضا أن ينشئ مشهدا يجمع بين الانطباعية والسريالية بحيث يثير الشعور بالرهبة. حينئذ سوف يقدم العديد من الصور المحتملة الصور التي تتمحور حول الفكرة الصورية لتعطي الشكل الأقرب لحدوس الفنان. إن فكرة استخدام الفنانين للتكنولوجيا لتوجيه فنهم ليست جديدة. وهناك الطرق التي استخدم بها أساتذة عصر النهضة التكنولوجيا في عصرهم لإنشاء أعمالهم الفنية. وإذا تسبب استخدام التكنولوجيا في الفن منحه قدرا من الغموض، فإن الفن غالبًا ما استخدم الغموض عمدًا. إذ أن قدرا من الغموض سوف يضمن قوة الأعمال الفنية، لآنه يدفع المشاهد للتفكير في معناه.

ابتكارات تكنولوجية تفتح مجالات جديدة للفن والإبداع

وقد يرى البعض أن وسائل الإنتاج الفني الحديثة ووسائل إعادة الإنتاج، كالتصوير الفوتوغرافي والفيديو، قد دمرت السلطة الجمالية والثقافية للفن، وعلى النقيض من ذلك، يرى البعض الآخر أن انتشار ابتكارات التكنولوجية المختلفة، مثل التصوير الفوتوغرافي أو التعلم الآلي، يساعد على استكشاف مجالات جديدة للفن والإبداع. ومن المعروف أن العديد من الفنانين يعتمدون في رسم لوحاتهم على الصور الفوتوغرافية مثل الفنان الألماني " جيرهارد ريختر" Gerhard Richter(1932) ولا يتعارض ذلك مع مبادئ الأصالة . كذلك لا يتعارض استخدام تقنيات "الذكاء الاصطناعي" في انتاج أعمال فنية مع مبادئ التأليف والأصالة تبعاً للمفهوم المعاصر لعلاقة الفن بالبحث العلمي.. وتُظهر قطعة "جيرهارد ريختر"( 2001) التناقض بين سطح الصورة الفوتوغرافية وملمس الطلاء المرسوم بفرشاة الفنان، مما اخفى أصول الصورة، ولا يتمكن المشاهد للعمل معرفة مصدرالصورة الملتقطة، لأنها مغطاة بالكامل تقريبًا بطلاء أخضر- وردي متموج، وفي الزاوية فقط يمكن رؤية جانب صغير مما تمثله الصورة، يشمل جسم مائي، وسلسلة، وبنية خضراء ، وجزء من كتف شخص. ومن المفترض أن الصورة مأخوذة من قارب، حيث يحاكي الطلاء الماء الذي يغطيه. هنا، يحول الطلاء الصورة إلى قطعة مجردة، وتكون التفاصيل التي نبحث عنها بشكل طبيعي في الصورة، غامضة تمامًا. ومن المفترض فهم هذا النوع المختلف من الأعمال الفنية على أساس أنه يستخدم التصوير الفوتوغرافي كوسيلة يختارها للفنان للتعبير الإبداعي، وللتعبير عن فكرة أو رسالة أو عاطفة إبداعية فريدة.وللفنان جيرهارد ريختر، نافذة كاتدرائية كولونيا، حوالي عام 2007، حيث سقوط الضوء من نافذة الزجاج الملون في الكاتدرائية. وكان قد صمم " ريختر" نافذة كاتدرائية كولونيا لتحل محل النوافذ الأصلية للكاتدرائية التي دمرت في الحرب العالمية الثانية. وبدمج التكنولوجيا والتقاليد، طبق ريختر مبادئ لوحاته بالألوان على الزجاج الملون لإنشاء تركيبة تجريدية تتكون من مجموعات مختلفة من المربعات الملونة.

وللفنان جيرهارد ريختر، نافذة كاتدرائية كولونيا، 2007

مارلين مونرو بالشاشة الحريرية

ولولا اختراع تقنية الطباعة بالشاشة الحريرية silkscreen لما استطاع "آندي وارهول" Andy Warhol إعادة إنتاج الصور أو إنتاج أشكال متعددة من نفس الصورة بسهولة. لقد كان "وارهول "يرسم لوحاته الأولى يدويًا من الصور الفوتوغرافية قبل استخدامه لتلك التقنيات التي أتاحت له فرصة إعادة إنتاج صوره بشكل متكرر . ومن المعروف استعانة الفنان بمحترفين لنقل الصورالتي اختارها إلى شبكة الشاشة الحريرية. وكان دوره أن يمرر ممسحة مملوءة بالحبر فوق الشاشة الحريرية، بينما تكون الشاشة فوق قماشه اللوحة، فكان الحبر يمر عبر الشاشة ويطبع الصورة على القماش. ومن أولى مطبوعاته على الشاشة، سلسلة "مارلين مونرو" (1962) ، وهي نسخ متنوعة من الممثلة الشهيرة. أنجزها " وارهول" بعد وفاة الممثلة سنة 1962. وكانت المجموعة مكونة من 10 مطبوعات للشاشة الواحدة. وكان يطلق على استوديو وارهول اسم "المصنع". لقد منحت تقنية الطباعة بالشاشة الحريرية إمكانية نقل نفس الصورة عبر الحرير مع اختلاف طفيف في كل مرة ، وينتج عن ذلك تأثير إبداعي مدهش. هكذا يصبح كل شيء بسيطًا وسريعًا ومجازفًا، ويشعر بمتعة غامرة. لقد تبين في العلاقة بين التكنولوجيا والفن، أن الابتكارات التكنولوجية تنعكس في محتوى الفن. ومن الممكن أن نرى أن عناصر التكنولوجيا تستخدم في الغالب في معارض اليوم، ومعارض الفنون. وعلى وجه الخصوص، فن الفيديو الذي يستخدم الصوت والصورة معًا، وأضواء النيون والأعمال التي تستخدم آليات الحركة هي الأكثر شيوعًا. وتخلق هذه الأعمال انطباعًا أكثر فعالية وإثارة من الأعمال على القماش أو أي سطح عهدناه منذ قرون. والسبب هو أن الصور والأصوات والحركات أكثر ثباتًا في الذاكرة فضلاً عن كونها جديدة. بالإضافة إلى ذلك، عندما تظهر العناصر التكنولوجية مثل الراديو والتلفزيون والمصابيح واللآلات المنزلية والتجارية المتحركة التي تشارك في حياتنا اليومية في قاعة العرض، فإننا نخلق اتصالاً بين العمل مع شعور بالقرب الذي يولد دون معرفة المادة. ويتحول هذا الرابط بين التكنولوجيا والبشر إلى دعوة لمشاهدة الأعمال الفنية. وبينما "تمثل التكنولوجيا جسرًا بين المشاهد والعمل، فإنها توفر أيضًا بُعدًا جديدًا وإبداعيًا من منظور تقني. ولقد أصبحت التكنولوجيا ذات تأثير واسع النطاق في مجتمعنا. كما أثرت على الطريقة التي ننشئ بها ونقدر بها الفن على وجه الخصوص. كما أشعلت حافة التكنولوجيا بداية عدد لا يحصى من أشكال الفن والوسائط الجديدة. ويستخدم الفنانون المعاصرون مواد وتقنيات جديدة لإنتاج الأعمال الفنية. بينما كانت الرسم والرسم في الماضي الأدوات الرئيسية التي يستخدمها الفنانون في عملهم، أصبحت الآن في تركيبات القرن الحادي والعشرين الصوت والفيديو وأجهزة الكمبيوتر أكثر استخدامًا وشعبية. يجرب فنانو اليوم باستمرار التكنولوجيا الجديدة بطرق مختلفة، في محاولة لإيجاد طرق جديدة لاستخدام الأدوات القديمة بالإضافة إلى الوسائط الجديدة."(11)ومن خلال الاستفادة من التكنولوجيا، تجاوز الفنانون المفاهيم النمطية للفن وكانوا فعالين في خلق الدهشة الجمالية. وفي هذا السياق، إذ تتيح التكنولوجيات الجديدة والوسائط الرقمية فرصًا جديدة. ويمكن تطوير السياسات الاستراتيجية لدعم الفنون والتكنولوجيا بشكل. ومن خلال تشجيع التعاون بين المهندسين والفنانين، يمكن تطوير سياسات مختلفة ويمكن أن ينتج هذا التآزر نتائج إيجابية لكلا الطرفين. ويتطلب المستقبل تشجيع تطوير المهارات التي تنطوي على الفنون والتكنولوجيا. وفي حين أن التكنولوجيا والفنون غالبا ما تكون أجزاء منفصلة من المناهج المدرسية والهياكل الجامعية، فإن خلق مساحات حيث يتم دمجها على جميع مستويات نظام التعليم يمكن أن يساعد الطلاب على تطوير المهارات متعددة التخصصات وتمكينهم من العمل بشكل أكثر فعالية مع أشخاص من تخصصات أخرى. يستخدم فنانو اليوم التكنولوجيا بنفس الطريقة. وبفضل الفرص الجديدة التي توفرها التكنولوجيا، لم يضيفوا أبعادا جديدة إلى فنونهم فحسب، بل خلقوا أيضا فنونا جديدة. ويجب على الفنان الذي يعيش في عصر التكنولوجيا أن يتساءل عن التكنولوجيا.

**********

++++++++++++++++++++++==

المراجع:

(1)Sven-Olov Wallenstein: Nihilism, Art, and Technology, Printed by US-AB, Stockholm 2010.p. 1

(2)محسن عطيه : جذور الفن ، عالم الكتب، القاهرة 2004، ص17.

(3)محسن عطيه: الجمال الخالد في الفن المصري القديم ، عالم الكتب ، القاهرة 2001، ص8.

(4)محسن عطيه: تذوق الفن، الأساليب- التقنيات، المذاهب، دار المعارف بمصر 1995، ص50.

(5)Pierre Francastel, Art & Technology in the Nineteen th and Twentieth C en turie s, ZONE BOOKS · NEW YORK, 2000,p. 20

(6) محسن عطية: الفن والجمال في عصر النهضة ، عالم الكتب ، القاهرة، 2002 ، ص110&111.

(7) توماس مونرو: اللتطور في الفنون، محمد على أبو درة وآخرين،ص 143.

(8 ) Carl J. Friedrich : The Age of the Baroque 1610-1660, New York, Harper & Brothers, 1952.p. 40

(9) جورج ا. فلاناجان ، ترجمة كمال الملاخ ، دار المعارف يمصر،1962،ص49.

(10) رياض ابراهيم الدليمي: جريدة أوروك، وزارة الثقافة العراقية، 24ديسمبر 2023.

(11) Hung, H. T. (2018). The Relationship Between Art and Technology, Access: 29.09.2022