الفن التجريدي/الفن المعاصر
بقلم: د. محسن عطيه
غالبا توقظ اللوحة التجريدية الشعور حالة من النقاء والابتهاج بالنمط الفراغى وبالترتيب الكلى للصورة. و"كان قد ظهرتأثيرالفيلسوف"نيتشه" Nietzsche(1844-1900) ونظريته عن" الانسان الجديد"، وعن"إرادة القوة" التى تتمثل في "إرادة الإبداع"، على أفكارالفنانين التجريديين، باعتبار الفن يتشكل مما يعبر عن العواطف والأحاسيس. أما رسم اللامرئى فيقصد به رسم الفكرة. أما فكرة اللوحة التجريدية التى رسمها " فاسيلى كاندنسكى" كاندينسكي Wassily Kandinsky(1866-1944)، بعنوان "منظر طبيعي مع شجرتين من الحور"(1912)، فهى رسم "منظرطبيعى" بطريقة حولته إلى ما يشبه القطعة الموسيقية. وكان "كاندنسكى" يعتقد في نظرية "الطاقة الذاتية" عن درامية الخطوط بتشكيلاتها المستقلة عن الطبيعة وعن الوجود الزمانى والمكانى. وقد منح الألوان في لوحته خصائص روحية يمكن إدرراكها والتاثير بها في نفس المشاهد. و"قطعاً يصعب قبول لوحة مكونة من ألوان وأشكال لا تمثل شيئًا، ورغم ذلك ظهر"الفن التجريدى" مستقلا ًويحقق مفهوماً مطلقاً للجمالية في شكل ملموس. ويفسر"الفن التجريدى" أحياناً على أنه إدراك للنظام الأساسى للطبيعة، أو أنه شكل خالص من الفن، على اعتبارأنه كنشاط جمالى بحت، قد يناقض مبدأ الفن كتمثيل أو كتقليد للطبيعة، والذى ظل مهيمنا، منذ القرن الخامس عشروحتى القرن التاسع عشر" . (1)
وكان رسم المناظر الطبيعية بأسلوب " كاندينسكى" بمثابة تجريب في تقنيات التلوين ومعلجات القيم الفراغية ، وتشويه الأشكال .أما لوحة "منظر طبيعى مع اثنين من أشجار الحور" ، فلم تكن تجريدية بالكامل ، مثلما هى لم تكن تمثيلية تمامًا مقارنة باللطبيعة. إذ أن الفنان استخدم درجات كثيفة من الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق ، كذلك حول أشكال البيوت والأشجار والأراضي إلى بقع من الألوان غير المحاكية والأشكال المثلثية غير المنتظمة." كما لو كان مأخوذًا من حلم ، يتم تشويه المكان إلى أسقف منحنية بشكل غريب وقمم أشجار غير متراصة تمتزج في منظر طبيعي غير محدد من البقع المختلطة باللون الأحمر والأصفر والأزرق. يخلق Kandinsky إحساسًا ضمنيًا بالمنظور من خلال المسارات القطرية التي تقودنا إلى مركز اللوحة ومن خلال الارتفاع الأزرق البارد للتلال خلف ذلك يبدو أنه يتراجع في المسافة. "(2) ورغم صعوبة التعرف على المنظر الطبيعى التجريدى كمنظر محدد المعالم مقارنة بالطبيعة، إلا أن التركيبات اللونية الجريئة والمشرقة التى تشكلت منها لوحة كاننسكى، تثير إحساسًا مبهجًا بدرجة مدهشة. ولما كانت اللوحة ترجع بتاريخها إلى أوائل القرن العشرين، فقد يؤدى ذلك إلى اعتقاد البعض بأن الفن التجريدى هو فن قديم، ويحنمل أنه وصل إلى حدوده، غيرأن الفن التجريدى في الواقع مايزال حياً، والذى حدث أن الفنانين التجريديين الجدد أعادوا النظر في لغة التجريد واتخذوها في اتجاهات جديدة، وبذلك دفعوا حدود الفن بما يتماشى مع إرث المجازفة التجريدى. والرسم التجريدى المعاصر، أو كثيف النسيج، وألوانه نابضة بالحياة. كانت الحركات التجريدية السابقة مثل سوبرماتية "ماليفتش" وبنيوية "بفزنر" مهتمة بالطوباويات الاجتماعية والسياسية، بينما كانت رغبة التعبريون التجريديون الحصول على رد فعل عاطفى أو الاتصال بالمشاهد، بينما يهتم البعض الآخر باستكشاف إمكانيات شكلية جديدة. ثم أراد الفنانون التجريديون بعد ذلك اكتشاف تقنيات ومواد غير تقليدية، مع محاولة طمس الحدود بين الرسم والنحت، واستخدام عناصرالتصوير الفوتوغرافى أو السينمائى من التكنولوجية المعاصرة. وتوصلوا إلى اكتشاف عدد لا يحصى من الاحتمالات لإعادة تخيل اللوحة التجريدية. وبدلاً من الوصول إلى نهاية التجريب، أصبح التجريد، منذ أواخرالقرن العشرين وأوائل القرن الحادى والعشرين، الطريقة الأكثر أهمية من أى وقت مضى للتفكيرفى الاهتمامات الوجودية من خلال التجربة الذاتية. ومن المعروف أن"المناظر الطبيعية كانت دائماً من الموضوعات الأساسية في فن الرسم لعقود من الزمان، وكان الفنانون يحاولون في كل مرحلة، إعادة إنشاء نمط المناظر الطبيعية بطريقةغير تقليدية سواء بأساليب واقعية أومجردة. وعلى الرغم من ذلك، غالبًا ما تتميز الأشكال المعاصرة من "المناظرالطبيعية التجريدية " ، مثل لوحة الفنان "محسن عطيه بعنوان "عندما تشرق شمس الصباح" (2020)، بأنها مختلفة عن أى شىء شوهد من قبل. إنها ذات تصميم حديث يعكس ماضى وحاضر الرسم التجريدى في نفس الوقت. ونتتمثل روح القرن الحادى والعشرين، في التصميم الجريئىء والتلوين الشفاف والتكوين الغامض. وتظهر العلامات بألوان زاهية وجريئة على خلفية بسيطة ، مع منح القيمة العالية للفورية.
لقد كان "محسن عطية"، يبحث برسم لوحة "عندما تشرق شمس الصباح" عن الجانب الساحرالذى يدله عليه خياله، فيمنحه شكلاً مجازياً، يؤكد فيه على قوة اللون وعلى انحناءات الخطوط بإيقاعاته. وباستخدام أساليب الاختزال، يحول الفنان مكونات اللوحة إلى شفرات من صيغ لونية وشكلية، وفى هذه الحالة ينهار الائتلاف بين المكونات الطبيعية،غير أنه مع كل إنهيار ينشأ ائتلاف جديد. وتصبح اللوحة في حالة توازن معلق بين التوتر والسكون. ولا يكون لأى جزء من اللوحة معنى إلا في إطار الكل. ورغم المدى البعيد في تجريدية اللوحة، يمكن العثور فيها على مصدر الموضوع ومعناه،بحيث تطوف الأشكال على نحو ارتجالى في فضاء غير محدود. وهنا تتزامن تجريدية زمن الحداثة مع تجريدية الزمن الحاضر، كنوع من التبادل الثقافى في بداية القرن الحادى والعشرين. ورغم التأرجح بين التفاؤل واليأس، توجد قناعة بسيادة الفن وقدرته على فهم عالم متغيربشكل غزير. وبالنظر إلى العلاقة المحددة بين الحداثة والمعاصرة، فإن الفن التجريدى يوفر نماذج جمالية أكثر صلة، ويقدم للمشاهد إمكانية اللقاء الفورى العمل الفنى. ويلاحظ هنا أن لدى الفنان رغبة نحو تفكيك العناصر الشكلية، في تحدى تقاليد الفن التمثيلى، مقترباص أكثرمادة الفن كغاية في حد ذاتها بدلاً من اعتبارها مجرد وسيلة. وقد استلهم الفنان استكشافات السرياليين لدور اللاوعى في العملية الفنية. وبالعفوية والحركة ساهمت حقول الألوان طبقات الطلاء، وحرر الفنان نفسه من القلق العاطفى. التي تحفز فيهم نوعًا من التنفيس. إلى ما وراء حدود إطاره. وفى الحلزونات ، تتقاطع الخطوط على المستوى الأفقى. في المقاطع العرضية ، وترتعش ، وفى وفرة اللون. ويكتب الناقد صلاح بيصار عن هذه التجربة :" من بين قلة قليلة من فنانينا ظل الفنان "محسن عطية" مخلصا للوحة التجريد من بداية السبعينات من القرن العشرين وحتى الآن مؤكداً على أن اللغة البصرية بما تحمل من رموز، وما تعكس من خطوط وألوان وتراكيب وصيغ، تبدو في شفرات تجريدية قادرة على أن تنقلنا إلى مرافئ الدهشة ومنافذ الحلم خاصة وأن أعماله فيها من رحيق الأشياء وسحر الأزمنة والأمكنة بل وبقايا عناصر من روح الحياة ووشوشات النور للظلمة وهمس الموجودات على الرغم من التلخيص الشديد والإيجاز والاختزال. ولقد بزغت معالم أسلوبه فترة السبعينات 1972- 1976 وامتدت بمزيج من التعبيرية والتجريدية ومع ومضات رمزية ..، والأعمال عموما لا تخلو من بعض الملامح التشخصية التى تعد بمثابة مفاتيح وعلامات واشارات تهمس دون بوح وتنطق في صمت بحركة الإنسان في قلب تلك المشاهد التشكيلية أو الحدائق اللونية والتى تموج بغنائيات من الأزرق الليلى والبحرى والأخضر العشبى والأصفر البهيج والأحمر النارى والبرتقالى الدافئ والبيج الهادئ مع الأبيض البرئ في أشكال عضوية وعناصر هندسية وعلامات." (3) ومنذ أن رسمت المناظرالطبيعية في "الهواء الطلق" أو الرسم في الهواء الطلق، بعيدًا عن استوديوهات الرسامين تميز رسم المناظر الطبيعية بحسية أكثر، مما عهدناه في اللوحات التاريخية أو الدينية أو الصور الشخصية أو مشاهد الحيوانات. قدمت لوحة الهواء الطلق عالمًا من الروائع الحسية، مثل وميض الضوء المنعكس من سطح الماء، والألوان المتغيرة للسماء، وخطوط الألوان العديدة والأشكال في الطبيعة.التقاط صفات الضوء، وفي تجارب ما بعد الانطباعية مع اللون والحركة. واستطاع الفنانون نقل المشاعر بدلاً من الواقع . ثم استخدم الفنانون التجريديون رسم المناظر الطبيعية كنوع من الاختيار لنقل أساليبهم سريعة التطور. فرسموا المناظر الطبيعية Fauvist بغزارة ، احتفالًا باختيارات الألوان الزاهية والتعسفية التى رفضت بجرأة اللوحة الواقعية للمنظر الطبيعى.على سبيل المثال، هل يجب أن تشير"المناظر الطبيعية" إلى الأرض؟ لأن تأثر الرسام التجريدي التعبيرى صاغ اللوحات التجريدية التى رسمها لاستكشاف المشهد التحليلى النفسي للعقل البشرى. فضاء الفكر البشرى في عالم "الأرض". كذلك مزجت أعمال الفنان محسن عطيه" بين التجريد والسريالية، مما أدى إلى توسيع مفهوم ما يمكن أن يكون المشهد الطبيعى. ولوحة هنا تنقل عمق اللون وإتقانه الذى ساعد في تحديد هويته لاحقًا. ترتبط المناظر الطبيعية لفرانكنثالر ارتباطًا وثيقًا بأعمال Color Field الخاصة بها لدرجة أنها تتساءل عن الحدود بين التمثيل والتجريد الخالص. لقد تحدى بلوحته "عندما تشرق شمس الصباح" تلك النظرة التقليدية للمناظر الطبيعية التى عفا عليها الزمن. وأدى التعريف المفاهيمى للتجريد إلى تغيير هذه النظرة تمامًا، لما يمكن أن تكون عليه المناظرالطبيعية، والطرق التى يمكن استكشافها في الفن المعاصر. وتتيح االتجريدات المفاهيمية للرسامين المعاصرين الحرية الكاملة لاستكشاف وجهات نظرجديدة حول المناظرالطبيعية. حيث ترسم باستخدام مساحات واسعة من الألوان المنتشرة التى تتماشى بطرق توحى بآفاق.والانطباع الناتج في لوحة "عندما تشرق شمس الصباح" هو التقاء الرمال والبحر. ويتحقق هذاالانطباع ، بالاعتماد على اللون والملمس لنقل جوهرالطبيعة. وهما يعملان معاً على توسيع الحدود المفاهيمية لكيفية تصويرالمناظر الطبيعية. وينشىءالفنان بهذه اللوحة تكويناً تبسيطياً من الألوان، يهدف إلى العثورعلى لغة بصرية، تلخص عناصر المنظر الطبيعى . ويقوم الفنان "محسن عطيه" بتوسيع مفاهيم كيفية استكشاف المناظرالطبيعية وفهمها، دون الالتزام بالمناظرالطبيعية التقليدية. هكذا نجد أن مفهوم المناظر الطبيعية يحتوى على العديد من وجهات النظر المثيرة للاهتمام إلى تنتظر استكشافها.
____________________________________________________
المراجع:
1- محسن عطيه :الجماليات ...لماذا؟ في الفن الحديث ومابعد الحديث،عالم الكتب ن القاهرة، 2020، ص75.
2- Thomas B. Cole, “Landscape with Two Poplars, Wassily Kandinsky,” Journal of the American Medical Association, 310 No. 11 (2013).
3- صلاح بيصار:"رموز وألوان محسن عطيه، صحيفة القاهرة - 2/ 4/ 2013.