الفن التجريدي/الرسم التجريدي المفاهيمي
بقلم :د. محسن عطيه
بدأت التجريدية في الفن الحديث منذ نشأة "التنقيطية" التى عرف بها أسلوب الفنان ما بعد الانطباعى " جورج سورا"(1859-1891) الذى عمل من خلاله على تقليل الواقعية المادية للأشكال، ومع التحليلات التى اتخذت مدلولاً تشكيليا بحتا. "وأصبح الاختزال والتسطيح للموضوعات والأشياء في أعماله الانطباعية ميزة رئيسية. إذ أن الألوان تختزل استنادا إلى قواعد محددة، تشبه قواعد الموسيقى، وقد هيمن أسلوب التشكيل البحت على لوحته " عصر يوم أحد في جراندجات" (1884)التى بدت في اتجاه" الفن النقائى".(1) وكان "سورا"قد توصل إلى اكتشاف الإمكانيات التعبيرية للخط واللون، حيث تبرز الخطوط الأفقيةالهدوء، وتكون الخطوط العمودية مسئولة عن إبراز المرحن وبذلك نوصل إلى ما يعرف بـ " التوليفية العلمية".
وكانت الأشكال في لوحة الفنان" بول سيزان"(1838-1906) بعنوان "مونت سانت فيكتوار وجسر وادى نهر آرك" (1882-1885) تأخذ حياتها الخاصةواستقلاليتها،" ولم يكن سيزان هنا يهتم في اختيار الموضوعات، بهيئة الشىء المرسوم ذاته، ولا بجماله ومحتواه ، ولا بما يكمن فيه من أبعاد درامية ، أو معان مجازية..،وإنما كل ما يعنيه هو التوصل إلى ما يربط بين أشكاله في الفراغ الذى يحويها. وعمد سيزان إلى رد أشكال الأشياء إلى أبسط شكل لها، متغايا عن التفصيلات البصرية، بطريقة هنسية اختزالية، وفى عناصر تركيبية أساسية.(2)
ليست اللوحة التجريدية المفاهيمية شكلاً تجريديا بحتا، مثل تجريدية الفن الحديث. حيث لا يترجم كل شيء في مثل هذه الأعمال الفنية إلى دراما إنسانية لأن تركيز الفنان بشكل ونقدي لأنماط فنية أخرى. ويكون العمل الجديد في بعض الأحيان ، بمثابة إنبثاق مفاجىء، مما سبقه قبل عقدين أو أكثر. وفي بعض الحالات الأخرى تبدو الأشكال متزامنة مع بعض التجريد المفاهيمى . ويمكن اعتبار “التجريد المفاهيمى” تطوراً للتجريدية بمفهوم “الفن الحديث “ التى ميزت تجريدات": " بيت موندريان" و" كاندنسكى" و"جوزيف ألبرز "، والتجريدية التعبيرية للفنان "جاكسون بولوك" و"ويليم دي كونينج" ، و"فرانز كلاين" ، التى واكبت عروض "فن البوب" في الستينيات من القرن الماضى. وبحلول التسعينيات، كان التجريد بمثابة انطلاقة جذرية لرؤية جديدة للفن التجريدى، إذ أظهر "التجريد المفاهيمى" أن الرسم التجريدى ظل خيارًا حيويًا وتقدميًا للفن المعاصر . ويمكن القول أن النهضة الحالية للرسم التجريدي اضطلعت بمهمة إعادة النظر في مشهد الرسم و إعادة تقييم مسار التجريد من التسعينيات وحتى اليوم، حيث بقاء اللوحة التجريدية في "عصر ما بعد الحداثة، حيث لم تختف اللوحة التجريدية أبدًا. والفن التجريدى الجديد منذ تسعينيات القرن العشرين يرى التجريد على أنه صراع للوصول إلى "جوهر" الرسم ، وتجريد كل ما يتعلق بالتشكيل والعالم الخارجي. منتصف ثمانينيات القرن العشرين، إنه يتعامل مع التجريد على أنه طريقة الحديث عن العالم وليس طريقة للهروب منه. إنه "التجريد المفاهيمى" يجعل العمل الوجودى للرسم في المقدمة،على عكس الشكلية التي هيمنت على مناقشة التجريد في الستينيات، و التى أصبحت قديمة. وقد أراد الفنان التجريدى المفاهيمى أن يتحرك بحرية داخل شبكة معقدة من إشارات الأساليب الفنية السابقة.
وعن تجريدات الفنان "محسن عطيه" ما ذكرة الناقد المخضرم" كمال الجويلى" في مقالته منذ سبعينيات القرن الماضى، التى عرضها في قاعة اتيليه القاهرة (1973) كتب:"من خلال الشكل التجريدى المعاصر يحاول أن يضع مشاعره وأحاسيسه ورؤيته في علاقات اللون والمساحة الصراع تحمله الألوان الثلاثة المتماوجة على السطح الكبير..صراع الأحمر والرمادى والأبيض."(3) أماعن لوحات الفنان "محسن عطيه "التى شملها معرضه(2010) بعنوان "ألوانى - ارتجالاتى" ، كتبت الناقدة " فاطمة على "أن الألوان فيها "تشكل المشهد بين الواقعى والخيالى، ويبدو اللون على سطح لوحاته كأنه في حالة تحول كمادة كيميائية يتغيرتركيبها بالكامل وخصائصها باقل إضافة من أى مادة أخرى، كذلك اللون عنده في تحولاته مع أقل إضافة لبقعة لون تجد العمل بكامله يتحول وينساب كان اللون يتدفق وينتشر فوق السطح مكونا ما يراه اللون لنفسه دون أن يكون تفصيليا أو وصفياً...،وقد قال الفنان محسن عطيه واصفاً لحظات تقابله ومعطى اللوحة: أعيش لحظة صمت لكى ألتقط أكثر من رؤية دفعة واحدة..ويعمل مفعول سحر الألوان حينما تقصى أمام عينى أسطورة الإدهاش المقدسة...، ثم يبدأ الاحتفال برشاقة المنحنيات، وبلغز الغيومات وببداهة الاحتزالات وبشاعرية القوافى، وبعفوية الارتجال....،مع كل سحبة لونية أو سحبة بفرشاة سوف تتفجر المفاجآت المدهشة مثل دعابة .. ويصبح اللعب بالاحتمالات أسلوباً للتحرر الممتع من القيود.. وتسيل الألوان وتتمازج لتحيا حياتها وتتحدث بلغتها."(4) وتظهر في لوحة من ذلك المعرض(ألوانى- ارتجالاتى) بعنوان "تانجو"(2010)التقنية التلقائية والفرشاة النشطة، و النزعة الغنائية التى تعتمد على التورية والمجاز للتوصل إلى معادل بصرى لمعنى الفرح الممتزج بالشعوربالكبرياء، مما تعكسه الصورة التى تترجم إحساس الفنان بحالة من الانعتاق من الأحزان بممارسة طقس"نورانى" في انسجام مع إيقاع النفس. وفى هذه اللوحة تقترح أول لمسة لونية اللمسات التالية، حتى يتحول الرسم إلى فعل مباشر وآنى. إذ تسيل الألوان وتتمازج في اتجاهات مختلفة، فتحيا حياتها وتتحدث بلغتها. وعندما يحظى الفنان بحرية الاختيارمن بين الاحتمالات الشكلية والمفاهيمية، أو تبديل عنصر بآخر، إضافة إلى حريته في إجراء التشبيهات المجازية وإجراء عمليات الاختزال والمبالغة، بل وإعادة رؤية الظاهرة الفنية برمتها في صياغة جمالية غير تقليدية، سوف لا يكفى التعامل مع اللوحة على مستوى الفهم المنطقى، إنما يصبح للحدس فعاليته في إدراك مستويات "العمل الفنى" الرمزية والمجازية التى شكلتها العاطفة ممتزجة بالخيال، ليصبح الفن رمزاً يعد المتلقى بالعثور فيه على ما يستكمل به حياته المتجزئة.
وتميزلوحة" تانجو" اللغة الفنية الخاصة والنمط التشكيلى الذى في مقدوره ترجمة معنى الانصهار بين الفنان وعالمه، حينما يلجأ لخياله ليبلغ الجمال والتميز، ومن أجل أن يخلق صورة الواقع الأشد قوة، بعمل فنى يمثل ما فوق الواقع. و"هكذا يمثل الرسم بتلقائية نشاطاً وقوة محركة لا تخضع للقيود، إذ يتحررمن مهمة التشخيص ومن أساليب السرد الروائى، مما تفترضه تقاليد المحاكاة. وبذلك يفسح المجال لإبتداع الأشكال الجديدة وغيرالمتوقعة.. وبفضل سعة خيال الفنان، وباستخدام أساليب التمويه والمجازات الصورية، يكتشف ما وراء البصرى والذى يمثل قوة مجهولة، تنبثق متجاوزة منطق التغيرات التدريجية الهادئة، بعد تصدع سطح "العمل الفنى". وباقتلاع الأفكارالتقليدية. وأيضاً بارتياد عالم اللاشعور، يخصب الفنان رؤيته الفنية ويشحذ التوقع، إذ بجعل المتوقع غريباً والخارق مألوفاً، ويصبح الروحى أكثرمادية، والحلم أكثر واقعية."(5) لقد تميزت الأشكال الجديدة من التجريدية، منذ التسعينيات من القرن الماضى بالتعددية، كما أصبحت أنواع كثيرة من التجريد ممكنة، غيرأنها تناقض "الجوهر الروحي" للرسامين التجريديين الأوائل ، من "بيت موندريان" إلى"مارك روثكو" . حيث تندمج الجمالية التجريدية الجديدة مع مفاهيم ما بعد الحداثة ، ومع التجريد المفاهيمي، الذى يتصف بالبساطة وبوضوح النموذج الاختزالي، وبتحرر الفن نفسه من التصوير، والتتخلص من أعمال الفرشاة ، فتستمد سمات الفن التجريدي من النماذج غير المجردة. فبينما جاءت شبكة موندريان من التكعيبية، وجاءت الأشكال الحيوية للتجريد في ثلاثينيات القرن العشرين من " خوان ميرو "و" بابلو بيكاسو "، وكلها تصويرية. فإنه في وقت لاحق ظهرت التعبيرية التجريدية منذ خمسينيات القرن العشرين، كأكاديمية جديدة ، لكن رسم "حقل اللون "Color Field و" ومذهب الحد الأدنى"(المنيمالية) Minimalism كشفت عن إمكانيات جديدة غير متوقعة للتجريد. . ومنذ عام 1970 ، أسنكشف الفن التجريدي الصفات المرئيةو الإمكانيات التعبيرية للتصوير الفوتوغرافي والتوثيق والتخطيطات المعمارية، وتصميمات المنسوجات والنفايات الصناعية ، الإيماءات المحاكية والتقطير بالفرشاة. وبينما كان التجريد الحداثى "نقي" ومتجانس. كان للتجريد ما بعد الحداثى نهجاً مختلفاً تجاه التمويه، حيث يستفيد الفنان من الصدفة ومن غموض الرسم المشبع بالألوان، وهى تتدفق على سطح اللوحة، حيث تحجب طبقات أجزاء من الأخرى، ثم تندمج مع الطبقات الرطبة في الحقل اللونى الذى ينتشر بسهولة وعفوية، مستحضرًا إيماءات "المنظرالطبيعى" بين التشخيص والتجريد. إذ مع إضافة أوطمس طبقات من الطلاءات المختلفة، تتولد العلاقات اللونية والملمسية بتاثيرها الروحى. و الفنان في هذه الحالة قد يجرى إضافات خيالية من تصوره، مقترباً من عالم نصف بصرى يتذكره. لقد أظهرت تقنية " حقل اللون" التى ميزت لوحة" تانجو" الإمكانات المدهشة للصدفة، إذ لا يمكن التحكم في هيكل الطلاء بشكل كامل، غيرأن الصدفة التى تحدث على نحو مفاجىء ليست عمياء في التجريد المفاهيمى، رغم عدم معرفة ما سيحدث للوحة، ولا يمكن التنبؤ بنهايتها مسبقا. _____________________________
المراجع:
1- محسن عطيه،آفاق جديدة للفن، دار المعارف بمصر 1995،ص74.
2- المرجع السابق.ص75)
3- كمال الجويلى: جيل جديد يملآ قاعات العرض، جريدة المساء ، القاهرة،الثلاثاء 13فبراير1973)
4- فاطمة على: لوحات معرض "ألوانى –ارتجالاتى " محسن عطيه"، مجلة أخبارالنجوم ، القاهرة، 18مارس 2010 .
5- محسن عطيه:أفكار وألوان،عالم الكتب القاهرة 2019ص12.)