الفلسفة/الأخلاق/الأزمنة القديمة/أخلاق ارسطو
يقدم ارسطو المولود في مستعمرة يونانية في تراقيا صورة عن العقلية اليونانية بمثله الأعلى الثلاثي ( القياس ، العقل ، الجمال ) تفوق في دقتها - كما لوحظ غالبا - تلك التي يقدمها الأثيني افلاطون ، فليس لدى ارسطو شيء من ذلك المزيج الفريد الذي اختصت به الأفلاطونية أي مزيج الشاعرية الصوفية بعض الشيء والتصلب الأخلاقي ( هذا ما جعل افلاطون يبدو أحيانا وكانه يتحدث منذئذ اللغة المسيحية وجعل من السهل بالتالي على آباء الكنيسة الأوائل تقبله ) ، وكانت الخطوة الأولى في ميتافيزيائه إلغاء مفهوم سماء "المثل" الصوفية : فليست الحقيقة خارج عالمنا، ولكن تحت ابصارنا في الكائنات وفي الأشياء الأرضية غير أن ذلك لا يعني أن هذه الأشياء والكائنات خالية من النظام ومن المعنى ، فالكون يبدو لأرسطو كطبقات ( مستويات) من الواقع ينتظمها تسلسل عظيم الإتساع تبطنه وتوجهه وتمتصه حركة جامعة نحو الكمال ، وكل فرد مزدوج التكوين فهو مركب من مادة ( هي قدرة على التغيير غير محدودة ومبهمة ) ومن صورة أو قالب ( هي ميل إلى التنظيم والتحقيق البنياني للميزات الطاقية للمادة) ، ويستند كل مستوى من مستويات الواقع هذه إلى السابق مشكلا في الوقت نفسه قاعدة للمستويات التالية ، وهكذا يرسم الكون سلما مستمرا يرتفع من حد إلى حد نحو المستويات العليا ، واخيرا فإن هناك صورة الصور ( الإله أو المحرك الأول أو الخير ). أما قاعدة السلوك الإنساني التي ينتج عنها بشكل غير مباشر بلوغ المرء السعادة فلا يمكن أت تكون بالتالي سوى إنجازه ل "صورته" الخاصة به على خير ما يمكن وتحقيقه ل "جوهره" وطبيعته إلى الحد الأقصى ، ولما كان المميز الإنساني هو العقل فإن الفاعلية الفاضلة تقوم على العيش طبقا للعقل وهذا ما يعني أنها ليست متوقفة علينا بشكل كلي بل يجب أن تكون الظروف الخارجية ملائمة ، أي يجب توفر (رضى الآلهة) ويعني ذلك أيضا أن هذه الفاعلية تختلف بحسب الأفراد وبحسب استعداداتهم العقلانية . وبالنتيجة فإن الفضيلة كما يحددها الكتاب الشهير "الأخلاق إلى نيقوماخوس" لأرسطو هي عادة واستعداد راسخ مكتسب لتجنب أي تطرف والحفاظ في كل شيء على "الوسط الصحيح"فلا ينبغي إلغاء الأهواء ( لأنها جزء من طبيعتنا كما انها محركنا الداخلي ) كما لا ينبغي اطلاق العنان لها ( لأنها ستطغى على العقل إذ ذاك ، وهذا مظهر آخر من مظاهر طبيعتنا )ويطبق ارسطو هذا المثال الأعلى للنظام والقياس والإنسجام على تحليل ما يجب أن تكونه فضائل الحياة العملية :
السماحة : وهي المرحلة المتوسطة بين البخل والإسراف
العدالة : التي تقوم على الحفاظ على التوازن الإجتماعي بصورة متعاوضة احيانا ( العدالة الصارمة في المبادلات ) ، وبصورة توزيعية احيانا اخرى ( التناسب مع استعدادات كل واحد من ناحيتي العقاب والمكافاة )
الصداقة : وهي ان يهب المرء نفسه بشكل نزيه ومطلق ، ولكن ايضا أن يكتسب خير ما لدى الطرف الآخر اخلاقيا . غير انه إلى الأعلى من هذه الخلاق العملية تقع الحياة التأملية التي لا يمكن بلوغها إلا للحكيم وحده ، وتقوم على الإنصراف إلى الفكر المحصن وإلى المعرفة النقية من كل شوائب الإعتبارات الأرضية وهي الوسيلة التي يقترب بها الإنسان من الإله ويخلد نفسه ما امكنه الخلود خلال وجوده على قيد الحياة ، وهذا ايضا حد متوسط بين الفضيلة اليومية وبين المشاركة المستقبلة في الألوهية في الذكاء الأبدي . وتكتمل هذه المفاهيم بسياسة أكثر "انسانية" بما لا يقاس من سياسة افلاطون : الإنسان حيوان خلق لكي يعيش في مجتمع ، وهو بالتالي درجة متوسطة بين البهيمة والإله اللذان يوجدان منفردين ، ولكن المجتمع - تلك الظاهرة الطبيعية - ذو غاية واضحة ودقيقة هي تنمية الفضيلة لدى اعضائه ولذلك فإن جميع الدساتير التي تميل إلى "تدعيم العقل بدون الهوى" لدى الفرد صالحة ، لكن تفضيل ارسطو ينصرف إلى الديموقراطية المعتدلة حيث تعتدل الثروات في انسجام صحيح وكذلك الأمر بالنسبه للكفاءات كما هو بالنسبه للرغبات الخاصة ، وهذه نتيجة منطقية لهذا التأمل الأخلاقي الذي يشكل قاعدة لكنها" قاعدة رصاصية" قابلة للتشكل بحسب كل قالب من قوالب الجزئيات الإنسانية كما أنها رمز لما يجب أن تكون عليه الحياة الأصيلة : أي التناسب المعقول بين النظام الكلي وبين المحل الذي يشغله فيه الإنسان تبعا لطبيعته النوعية .