الفلسفة/الأخلاق/الأخلاق الطبيعية
المذاهب "الطبيعية" بصورة فعلية، أي المستندة إلى مفهوم جماعي عن الطبيعة، وعن المكان الذي يشغله الإنسان فيها (ليس لهذا المفهوم من "العلمية" بصورة عامة سوى مظهرها). وقد شكلت هذه المذاهب غالبا مدارس كبيرة النفوذ على الرغم من غموض الأسس التي قامت عليها (لعل ذلك بفضل هذا الغموض بالذات)
أ- الأبيقورية : لم يحاول الفكر الأبيقوري (يعود إلى أواخر القرن الرابع ق.م) مطلقا الزعم بأنه يشكل " مذهبا أخلاقيا" من النمط التقليدي بل كان يأبى استعمال " تلك الكلمة الضخمة : الفضيلة "، مكتفيا ببساطة باعتبار نفسه كمنهج للحياة السعيدة، اما السعادة فقد كان قطعيا في تحديده اياها بأنها كامنة حصرا في "اللذة" التي يبعثها فينا الإستسلام إلى ميول طبيعتنا الإنسانية، وهذه الميول نتائج منطقية لما هي "الطبيعية " بحد ذاتها. ويصف "أبيقور" هذه الطبيعة مستعينا باقتباسات عن فيزيائيي القرن الخامس ق.م ولا سيما (ديموقريط) الذي لم يحتفظ منه – وبصورة براغماتية – إلا بما يبرر اختياره الأخلاقي المسبق : أي اعتبار الكون آلة محضة، أو مجموع عدد لا متناه من "الذرات" أو "الجواهر" الخالدة والممتنعة على الفناء.. وتفسر اشكال هذه الذرات وحركاتها وامتزاجاتها المتنوعة – وهي جميعا وليدة الصدفة – تفسر جميع الظاهرات الفيزيائية والبيولوجية... فليس قوام الروح ذاتها سوى اتحاد انتقالي بين جزيئات بدائية كهذه لا تختلف عن مثيلاتها إلا بكونها أكثر حيوية ونفاذا من غيرها، ثم تتبعثر الروح بعد الموت (كما هو شأن الجسد) وتفنى... فليس الخوف من الحياة الأخرى والذى يفسد حياة الكثيرين من ذوي العقول الضعيفة سوى خديعة. وعلى أي حال فإن الآلهة (الذين لا ريب في وجود بعض منهم) لا يلقون بالا إلى العالم أو إلى الناس، وليس من شأنهم – على الأخص – محاكمتهم. ينبغي ألا نستخلص مما سبق أنه يجب الانسياق دون تفكير وراء جميع الرغبات النفسية – العضوية الناجمة بالضرورة عن آليه تلك " الآلة" شديدة الضخامة، المكونة من الذرات... فهناك نهج حسابي منطقي خاص بالسلوك، كما يلي : من البدهي أن نفر من الألم، إذا لم يخرج عن نطاق كونه ألما صرفا... ولكننا نستطيع تقبل هذا الألم إذا كان من شأنه في خاتمة المطاف أن يجلب إلينا تلذذا أشد منه... وكذلك الأمة بالنسبة للذة إذ يجب أن نبحث عن اللذة الصرفة، ولكن علينا أن نهرب من تلك اللذة التي تؤدي في النهاية إلى احداث ألم أكبر منها. ويقودنا هذا الحذر الحسابي إلى التمييز بين الحاجات الطبيعية الضرورية من ناحية كالطعام والنوم وإلخ... وهي سهلة الإشباع دائما، فيكفيها بعض الماء أو الخبز أو غطاء للنوم، وبين الحاجات الطبيعية غير الضرورية من ناحية ثانية (كالرغبة الجنسية إلخ...) التي يستسلم لها الحكيم إذا اتيحت له الفرصة، شريطة أن يتفادى دائما تكونت عادة تجعله عبدا لهذه الرغبات فتسبب له الألم بالتالي إذا لم يستطع اشباعها... وبين الحاجات غير الطبيعية وغير الضرورية من ناحية أخيرة (كالمجد، الثراء، إلخ...) والتي يجب على الحكيم أن ينصرف عنها لأن الحصول عليها يتطلب جهدا يفوق التلذذ الناجم عنها. يجب بالتالي أن يعيش المرء حياة متوازنة وبسيطة ومتواضعة دون أن يبحث إلا عن لذة الصداقة (تلك اللذة الصافية المتجددة دوما) ودون أن يؤذي احدا (مما يجنبه التعرض للإنتقام)، ودون أن يحسد احدا.. كما يجب أن يتحمل الألم (لأنه لا يدوم ابدا ويمكن محاربته بأسلوب مدروس قائم على استحضار الذكريات السعيدة)... وعلى أي حال فإن الحكيم يستطيع دائما هجر الحياة إذا أصبحت لا تطاق " كما يغادر غرفة اصبحت مليئة بالدخان " مادام الموت ليس امرا يبعث على الخشية. يتضح لنا مما سبق أن "أبيقور" يصل بالنتيجة إلى احياء جميع الفضائل التقليدية : التعفف، الصداقة، الشجاعة، إلخ... ولكن هذه الحكمة العذبة والعقلانية (والتي تقوم ميزاتها الرئيسية على تذكير الناس بأن الألم يتوقف بنسبة كبيرة على التقدير الذي نضعه نحن ذاتنا للأشياء) كان من نصيبها انها ] لاقت من النجاح بسبب مقدماتها أكثر مما لاقته بفضل نتائجها [ على حد تعبير " ريفو".. بل وأصبح المفهوم غالبا مما يعنيه الانضمام إلى الأبيقورية البحث المنهجي الأمثل عن المتع السهلة وفضلا عن ذلك فإن الأبيقورية تتطلب : 1- ظروفا اجتماعية خاصة فقد استطاع " فونتينيل " مثلا – حوالي عام 1730 – ممارسة حكمته المشوبة ببعض الأنانية والمستوحاة من الأبيقورية مطلقا عليها اسم "اخلاق المتع الصغيرة "، ولكن ذلك مما يستحيل في يومنا هذا الذي ليس في طاقة المرء فيه الانعزال عن الجماعة.
2- طبيعة مسبقة، عذبة وحساسة، (أي طبيعة أبيقور ذاتها) أما الاندفاع الأهوج للغرائز الجارفة، أو حتى الهيمنة اللامحسومة للرغبات " الطبيعية غير الضرورية " فهما أمران لم تتوقعهما في الواقع هذه الأخلاقية المشذبة كل التشذيب في الأساس.