النقد البنيوي/تفكيك مفهوم الفن كمحاكاة

من ويكي الكتب

تفكيك مفهوم الفن كمحاكاة

بقلم:د.محسن عطيه

ظل مفهوم"المحاكاة" متجذراً على مر تاريخ الفن. ورجوعاً إلى المبادئ الجمالية التى قام عليها "الفن الكلاسيكى"، سوف يكتشف أنه لم يكن التركيز في فن الرسم على الخداع البصرى يتنافى إطلاقا مع مبدأى التمثل والحقيقة. فبقدر ما يتوصل العمل الفنى إلى خداع بصرالمشاهد، يقترب من الحقيقة ويستوفى شروطها. وفى فن"عصرالنهضة" كانت فكرة "التشابه" تمثل مركزاً للمنظومة المعرفية، وقد اتخذت هذه الفكرة بنية دائرية، مركزها التمثيل، كاستعارة رمزية للمعرفة التى جوهرها المحاكاة والتشابه. ويعتمد الفنان في تحقيق مبدأ المحاكاة في الرسم على تخطيط للمنظورثلاثى الأبعاد، ينطلق من زاوية واحدة وثابتة، وذلك لإدخال المشهد الخارجى إلى حيزالرسم، حتى يوحى بالعمق وبالفراغ ثلاثى الأبعاد، اعتماداً على توفيرنقطة تتلاقى عندها الخطوط المتوازية، وكأنها هاربة. وفى الحقيقة لم يقتصراستخدام "المنظور" في الرسم على "عصر النهضة"، بل اتبعه الرسامون القدامى، غير أن رسامى النهضة استطاعوا تمثيل عدة موضوعات في حيزمكانى واحد، اعتماداً على تخطيط شفاف يساهم في إظهارالموضوعات، وكأنها تتوالى وتتلاحق. فبدت اللوحة الفنية شبيهة بنافذة تنفتح على عالم أساسه التمثيل المنظورى، الذى يفسح المجال أمام مشهد خلفى، كما لو كان يحدث ثقباً في مسطح اللوحة ليفتحها على العمق. وليس للمنظور دلالة تقنية - رياضية فقط، وإنما له كذلك دلالة فنية - جمالية. إذ لم يكن هدف الفن في زمن ما، نسخ صورة من الواقع. أما مبدأ "المحاكاة" في الفن الكلاسيكى، فيقصد به محاكاة النموذج المثالى. إذ اتبع الفنان نموذجاً هندسياً وعددياً من العلاقات والنسب، وكان الفن الكلاسيكى، قد استمد قواعده من نماذج الفن الإغريقى، التى خضعت لمبادىء المنظورالهندسى والنسب العددية المثالية والنزعة الطبيعية.

ليوناردو داغنشى- الموناليزا(1503-1506)

ويوضح التحليل الشكلى للوحة"الموناليزا"(1503- 1506،متحف اللوفر) للفنان الشهير"ليوناردو دافنشى "Leonrdo da Vinci(1452-1519)، الصيغة الغالبة، وعلاقة الشكل بالفراغ، والإتجاهات الأساسية للخطوط، ودرجة إضاءة الألوان، أو نوعية المحاور، واتجاهات حركة العين في اللوحة.ومن المعروف أن فن "الرسم المنظورى"، قد اقترن منذ "عصرالنهضة" بتقنية "المرآة"، ذلك لأن الرسام كان غالباً ما يستعين بمرآتين، الأولى لرؤية الأجسام المنعكسة على السطح، والثانية لتصحيح مواقع الأجسام. ومن الواضح أن هذه التقنية التى تعتمد على المرآة وانتقلت من فن العمارة إلى فن الرسم ، ستستعمل كثيراً من قبل الرسامين، ولذلك سنجد امتداداتها عند "ليوناردو دافينشى" الذى كان يركز، في جملة القواعد البصرية التى صاغها، على ضرورة النظر في "المرآة" من خلال ثقب، يوضع خصيصا لغرض تصميم الواجهات لتعطيها المنظورية، فهو يقول: "عليك أن تصف كيف أنه لا وجود لموضوع محدد في ذاته داخل المرآة، وإنما هو محدد بالعين التى تراه"، كما كان يقول في نفس هذا السياق: "برهن كيف أن لا شىء يمكن أن يرى إلا من خلال شرخ صغير". وفى الحقيقة ليست الغاية نفسها التى يرمى إليها التمثيل في فن "الرسم الكلاسيكى" شيئاً آخر سوى خداع البصر، وأعلى ما يمكن أن يحققه هذا "الخداع" هو أن يمنح موضوعات اللوحة حقيقة أسمى في الدقة، بحيث تضاهى الأشياء الطبيعية وتسموعليها. أليس هذا المبدأ ذاته هو الذى يدعو إلى القول بأن فن الرسم قد أضحى في لوحة "منظر هيت ستين في الصباح الباكر"( 1636) للفنان الفلمنكى" بول روبنز" Rubens Paul (1577-1640) أكثرمثالية من الطبيعة، إذ أصبحت هذه الطبيعة مجرد نسخة لنماذج لوحاته، وليس العكس؟. لأن ماهية فن الرسم، تقوم على الإيهام، وأن كل من يكتفى بنقل الطبيعة فقط كما هى، دون أن يضيف إليها الصنعة، سينجز دوما شيئاً ضعيفا وليس جميلاً. أما الاختلاف بين الرسم فى" عصر النهضة" والرسم "الباروكى"، فهو أن الرسم في "عصر النهضة" ينصهر أساسا في عالم متكامل يجعل هدفه الجوهرى هو الحقيقة، في حين يتخذ في الرسم "الباروكى" مظهراً بلاغياً، بعد أن أصبحت غايته ليست هى نقل الحقيقة، بل هى بلاغة التعبير وجذب الانتباه. ولذلك كان أكثرما يهم الرسامين "الباروكيين" هوالأشكال البلاغية التى تتخذها الأجسام والأمكنة، بحيث تنسجم مع الأسلوب "الباروكى" الذى يعتبرالفن وسيلة للإيحاء، ويسمح في المقابل بجذب التعبيرالفنى إلى دائرة المظهر والبراعة.

بول روبنز - منظر خريفي ، هيت ستين في الصباح الباكر ( 1636)

ويمكن فهم مبدأ "المحاكاة" بأنه "التشابه المحض"حيث يضع الفنان المرآة أمام الطبيعة. فمع ازدهار" الفن الإغريقى" ( القرن 4 قبل الميلاد) ولد معيار التشابه. أما "أفلاطون" فكان قد كشف في العديد من كتاباته عن المهمة التقليدية للفنانين على أنها تنحصرعادة في قيامهم بأخذ مرآة وإدارتها في جميع الاتجاهات. وهو بذلك يشبه عملية الرسم بمهمة "المرآة". ويتطلب منطق "المحاكاة" أن تكون المرآة غيرمعيوبة أو مشوهة. والمرآة هى حيلة بعض اللوحات مثل"زواج ارنولفينى" لـ"جان فان أيك"، و"وصيفات الشرف" للرسام "فيلاسكيز" و"حانة في فولى بيرجيه" لـلفنان"إدوارد مانيه". ففى كل واحدة منها تضيف المرآة عنصرا آخر.

المرجع:

محسن عطيه: رؤية نقدية في تعليم الفنون، عالم الكتب القاهرة2021، ص7-10.