المرآة تفتت الصورة

من ويكي الكتب

بقلم/ د محسن عطيه

المرأة الباكية - بيكاسو

الوجه المؤرق في لوحة" المرأة الباكية "(1937) التى رسمها "بابلو بيكاسو"(1881-1973) بألوان متصارعة من الأخضر والأزرق الحزين ،ومن الملامح المتكسرة يسمح لصوت الصراخ المكتوم بأن يدوى وللوهن الممزق بأن يحس. وتعكس المنحنيات والخطوط التي تهبط وتصعد في كل الاتجاهات قوة الاندفاع الإبداعى والمقدرة الفنية على تحويل حالة الانهيار العصبي الذي عانت منه" دورا مار" بسبب تدهورعلاقتها مع" بيكاسو"إلى علاقات جمالية.وتتضمن اللوحة حيلاً من أجل زيادة عدد زوايا الرؤية .وفى الصورة التكعيبية "دأب الفنان على النظر من خلال نقط متعددة بحيث يفتت صورة الشئ إلى أجزاء،ثم يتخذ من أحد هذه الأجزاء مركزاً للأجزاء الأخرى ، بحيث تظهر وكأنها انعكاسات للجزء الأول(1)وكان باستطاعة "بيكاسو" تحويل المحسوس إلى مجرد ، والعبور خيالياً عبر الزمن "كما استخدم أطراف الجسم والعينين والأنوف من أجل التعبيرعن مختلف الرغبات الخفية،ووضح تأثير الحركة المتجمدة في صور الوجوه المرسومة، وبخاصة التى بدت أسيرة."(2)أما اختفاء أجزاء من موضوع الرسم عن مجال الرؤية فإن غيابه يعد جانباً من وجوده المجازى،فى حالة إذا ما ربطت العناصر بعضها ببعض . ولقد تطورت الضغوط النفسية عند "بيكاسو" وتحولت إلى تقنية ذات طابع غريب، وكانت عين الفنان تعمل بفسيولوجية مختلفة وتفسر بطريقة مختلفة.وبدت الوجوه توحى باقنعة السحر، واتخذت الأنوثة طابعها الذي يتنافى مع الرقة، فهي قلقة وتجسد أشواقاً بدائية وانفعالات وخيالات، كينبوع لا ينضب للمشاعر الغامضة حتى تحولت إلى حقيقة روحية واكتسبت قوة سحرية.وقد كان للرمز في الأساطير وقت أن كانت نفس الإنسان مفعمة بذاتها نتنطلق منها وتعود ، ميل"نحو التعبير عن الغامض الذي تعانيه النفس ولا تعيه "(3) وكانت كتابات عالم النفس"يونج " Jungjنوه إلى فكرة الإزدواجية التي تشمل العنصر الذكورية والأنثوية في العقل الإنسانى. وقد تكون الصورة التي رسمها"بيكاسو" لـ"دورا مار" في لوحة "المرأة الباكية" هي الصورة المترسخة عنها في لاشعوره.وتتحدى هذه اللوحة التمثيل السلبى للأنوثة كنوع من الهجوم على الرموز البصرية لصناعة الجمال،حينما ترسم المرأة "باعتبارها قالبا نمطياً أو موضوعاً لتحديق الرجل فيه في إطارالتقاليد البصرية للفنون الرفيعة (4) وإنما رسمت كفكرة صورية مناقضة لمعاييرالجمال الظاهرى للمرأة ومعادية لمبدا الإغراء في أسطورة الجمال، وترفض تقيدها في صورة كاذبة مثالية لشئ جامد. وبينما رسمت امرأة في لوحات فنانى عصر النهضة (فينوس- جيورجيونى) حسناء وناعمة وبضة، وسط الطبيعة ،تبعاً للأعراف الكلاسيكية،كتجسيد للروح الإنسانية بلغ ذروته في لوحات الفنان الانطباعى "رينوار" مما يستدعى التأمل و التحديق.اما في لوحة"أولمبيا"(1865) للفنان الفرنسى " إدوارد مانيه " فتظهر صورة المرأة العارية لتعكس قوة شخصيتها، وكأنها تتحدى فكرة أن تصبح موضوعا لمتعة تحديق الرجل ،إذ هي تحدق مباشرة نحو عين المشاهد للوحة .

فتاة أمام المرآة- التحولات النفسية والجسدية

ويمكن تفسير لوحة" فتاة أمام المرآة "(1932) للفنان"بيكاسو"فى علاقة: السالب/الموجب،أو المرآة/ الروح،أوالمرآة/ التفرس.هنا تقع صورة وجه صديقة الفنان الشابة"مارى تيريز"Marie-Therese في المرآة وكأنه قابع في اللاشعور. لقد حلل "بيكاسو" في رسومه "التكعيبية " صور الأشكال من أجل إعادة تركيبها دون أن يفقدها خصائصها الأصلية. ووجه الفتاة مرسوم بلون وردى خزامى ناعم . ورغم هدوء صورة"مارى تيريز"إلا أن ألوانها فظة.ووجهها الذي يشبه القمر قد جعله الأصفرالمشع شمساً ،وحول أحمرالشفاة في فمها صورتها البريئة إلى صورة المرأة الناضجة، التي تدرك أسرار الحياة العاطفية . وقد ضاعف الفنان هنا في النموذج التكعيبى الذي يجمع بين الزاويتين الأمامية والجانبية معاً، من فكرة الإنعكاس،حتى سبب حالة من الإلتباس، وذلك يؤكدعلى أن الصورة المنعكسة على سطح المرآة ، هي التمثيل الروحى للجانب الخفى من الشخصية المترسبة في اللاشعور. و يتناول التفسير التفكيكى للصورة الشق الثاني (الآخر) من العلاقة بين التعارضات المزدوجة،على أساس أنه يمثل الشق الذي يستحق قيمة إيجابية في الثنائيات،مثل: الطبيعة / الثقافة،أوالمادة / الصورة، فيصبح العنصر السالب مكملاً للعنصرالموجب،مما يساهم في العثورعلى عناصر التمزيق التي تسمح بالرؤى الهامشية. وتمثل اللوحة شكلاً مختلفا للمرأة التي تواجه مصيرها منعكساً في المرآة ،ووتخترق الصورة المنعكسة في المرآة "الروح" السطح ،مثل الأشعة السينية .والصورة في المرآة، وقد بدت أكبر سناً وأكثر قلقاً ، الوجه مظلماً والعين مستديرة وخطوط الجسد تتلوى، تؤكد حقيقة صعوبة تعريف المرأة كشخص واحد.ومن هنا جاء الغموض الذي تمثله في الثقافة،مما يفسر إظار رغبتها في التواصل مع ذاتها المختلفة والمنعكسة في المرأة . أما حالة الصمت التي تشيع في العمل الفنى فتهيئ للتحولات النفسية التي تمر بها الفتاة.على عكس النموذج المثالى والنقى الذي صورت على هيئته الأعمال الفنية على مر تاريخ الفنون الجميلة،يخلو من أي شوائب تبعث على النفور.مثل نموذج المثالى (النرجسى) لجسد المرأة في تمثال "فينوس"الذي نحت متناسقا ًوأملساً وطاهراً، ليناسب تصورات الأنساق الذكورية .وفى الحقيقة فإن نموذج "فينوس" يغفل حالة النساء في الواقع اللاتى لاينتمين للنموذج المثالى،إنهن مختلفات ويستخدمن المساحيق والجراحة التجميلية. إن الصورة المجازية للجسد المنعكسة في طالمرآة"هي صورة "الحلم " المشحونة بالعاطفة والزينة. وقد رصدت هذه الصورة المتشعبة في لحة "فتاة أمام المرآة "عبر سطوح معاكسة من المرايا المتقابلة،وظهرت في شكل ثنائيات متناقضة ،تمزق الأجناس، كنوع من التنكر لطبيعة الواقع وتفكيك القيم السابقة. لقد حول الفنان "بيكاسو"القلق والتوتر نتيجة للضغوطات، وعن طريق الإزاحة الرمزية إلى نوع من "التحدى "بتشويه العلاقات الفراغة ونسب أجزاء الجسم، مثل الأطراف والعينين والفم،فبدت حركة الرؤوس تجمدة من جانب إلى آخر. وبتكثيف "الفنتازيا "اتخذت التقنية طابعاً غريباً ، وخلقت عالماً جديدا،مما يقع وراء الواقع. وليست التقنية الفنية سوى فعل التحويل التفسيرى للاوعى الشخصى إلى التعبير الشمولى عن الوعى الإنسانى.والشكل الفنى للتعبير عن قوى التحويل ، يعزز الذات الحقيقية للفنان، ويضفى عليها سحر الواقع ، بتغيير ما هو مكبوت وتحريره،مع إعادة ضبط النوازع عن طريق ابتداع شكل جديد.

{{قائمة

1-محسن عطيه :القيم الجمالية في الفنون التشكيلية دار الفكر العربي القاهرة 2010ص280

2- :الفن وعالم الرمز ،عالم الكتب، القاهرة 1996ص159.

3- :الفن وعالم الرمز ،عالم الكتب،القاهرة 1996ص159)

4-سارة جامبل، النسوية وما بعد الحداثة، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 2002 ص178ذ